السبت، 18 ديسمبر 2010

"أقول لكم" عن شوقي حافظ


لا أذكر أنني التقيتُه وجها لوجه ولا مرة واحدة في حياتي ، ومع ذلك أكن له في داخلي حبا واحتراماً شديدين ، لأسباب بعضها موضوعي ، والآخر شخصي .. أما الموضوعي فهو عموده اليومي "أقول لكم" الذي كان أشبه بـ"علامة" مسجلة لجريدة الوطن .. يحدث أن واحدا مثلي يبدأ قراءة الجريدة من الصفحة الأخيرة ليرى ماذا كتب شوقي حافظ اليوم .. كنتُ دائما أردد أن الالتزام أمام القارئ بعمود أسبوعي هو أمر متعب ، أما الالتزام بعمود يومي فذلك أشبه بالانتحار الكتابي ، ذلك أن الكاتب في سبيل هذه المحرقة اليومية مضطر أحيانا لكتابة مقالات هو نفسه غير راض عنها.. البعض يستسهل ذلك ولكنك تكتشف مدى ورطته حين تراه يحول العمود أحيانا إلى خواطر أو عرض لرسائل من قرائه .. أما صاحب "أقول لكم" فكنتُ أندهش من قدرته في كل مرة على القبض على فكرة بسيطة والكتابة عنها في سطور قليلة يظهر خلالها حسه الساخر من جهة ، وثقافته واطلاعه الواسعان من جهة أخرى .. كانت لديه تلك القدرة العجيبة على الالتقاط بحيث يصنع مقالا جميلا من خبر طريف قرأه في الصفحة الأخيرة في الجريدة مثلا ..
لا أعلم على وجه الدقة متى بدأ شوقي حافظ كتابة زاويته اليومية ، فمنذ وعيتُ على فعل القراءة للصحف وأنا أقرأ "أقول لكم" .. ولكني أذكر عمودا بعينه قرأتُه له في عام 1997 .. كان يتحدث بلغة بسيطة عن قصة لقاص عماني مغمور كانت قد فازت لتوها بجائزة المنتدى الأدبي لذلك العام .. كان يحلل القصة بمهارة ناقد ويدعو قراءه للانتباه لهذا الكاتب الشاب الذي يرى أنه موهوب . أما القصة فكانت "المرايا جمع تكسير" ، وأما القاص فهو كاتب هذه السطور ، والذي أسعده هذا المقال القصير كما لم ولن يسعده - بنفس الدرجة - أي مقال أو دراسة نقدية أخرى عن كتابته في قابل الأيام ، فالكاتب دائما يكون بحاجة للتشجيع والتعريف به وهو يتلمس أولى خطواته على طريق الكتابة ، وليس بعد ذلك .. ما أسعدني أكثر في هذا العمود أنه لم تكن بيني وبين الأستاذ شوقي أي معرفة شخصية قبل هذا المقال سوى معرفة القارئ بالكاتب .. وأذكر أنه بعد أن بدأ بوضع بريده الالكتروني أسفل مقالاته أرسلتُ له رسالة أذكّره بهذا المقال وأشكره عليه ، ولا أدري حتى اليوم إن كان قرأ رسالتي مادام لم يصلني رده .
بعد عشر سنوات من عموده ذاك – وتحديدا في النصف الثاني من 2007 - فاجأني شوقي حافظ بعمود آخر بُعَيدَ فوزي بجائزة يوسف إدريس يصفني فيه بأني كاتب بمليون ريال ، ويذكّر قراءة ما مفاده أنني كنتُ "أقول لكم" قبل عشر سنوات انتبهوا لهذا الكاتب .. في ذلك الصباح أذكر أنني كنتُ في خصب مشاركا كمحكم في مسابقة الملتقى الأدبي للشباب عندما انهالت علي الرسائل الهاتفية تطلب مني قراءة عمود شوقي حافظ .. وما إن قرأتُه حتى بعثتُ له رسالة الكترونية أخرى على ايميله أشكره فيها على ما كتب وأخبره أنني ممتن كثيرا لمقاليه القديم والحديث ، ولستُ متأكدا حتى اليوم إن كان قرأ هذه الرسالة أيضا .. ولكن ما أنا متأكد منه حقا أنه لن يقرأ هذا المقال ، ولن يعرف أنني كنتُ أتمنى أن ألتقي به وجها لوجه ولو لمرة واحدة ، ولكن يبدو أن القدر شاء أن تكون علاقتنا طوال حياتينا علاقة قارئ بكاتب فقط .
رحم الله شوقي حافظ .

الاثنين، 27 سبتمبر 2010

"كتاب أعجبني" جديد اذاعة سلطنة عُمان




































تبث إذاعة سلطنة عُمان بدءا من يوم الجمعة القادم ( 1 أكتوبر 2010 ) البرنامج الإذاعي اليومي الجديد "كتاب أعجبني" ، الذي يستعرض في كل حلقة كتاباً جديرا بالقراءة يرشحه أحد المثقفين أو الأدباء أو المهتمين بالقراءة .. البرنامج كما يقول مقدمه سليمان المعمري يهدف إلى أن يكون وسيطاً بين المستمع والقارئ والكتابِ الذي يتحدث عنه ، حيث سيدور حوار بين هذا القارئ ومقدم البرنامج الذي سيحاول من هذا الحوار الظفر بأهم المعلومات عن الكتاب ومضمونه ومؤلفه ..
من جهته يؤكد مخرج البرنامج حمد الحبسي أن هذا البرنامج ليس أكثر من فاتح شهية للقراءة .. فمن نافلة القول إن ربع ساعة – مدة كل حلقة – غير كافية للإلمام بأي كتاب ، فما بالك بكتاب جدير بالقراءة رشحه أحد القراء النوعيين .
يبث البرنامج بشكل يومي في الساعة 45ر9 صباحا .. ويعاد في الساعة 10ر9 مساءً ، ثم في 15ر1 من صباح اليوم التالي ..
وفيما يلي قائمة بأسماء الكتب التي تم تناولها في الحلقات العشرين الأولى من البرنامج ، مع أسماء قرائها :

م
اسم الكتاب
المؤلف
ضيف الحلقة
1
تاريخ عُمان : رحلة في شبه الجزيرة العربية
الرحالة البريطاني
جيمس ريموند ولستد
الصحفي سالم الرحبي
2
الأغاني
أبو الفرج الأصفهاني
د/ جوخة الحارثي
3
الإسلام بين الشرق والغرب
المفكر والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش
الكاتب سعيد بن سلطان الهاشمي
4
حوارات مع والدي أدونيس
نينار اسبر
القاصة هدى الجهوري
5
الأخوة كارامازوف
دستيوفسكي
الكاتب ناصر صالح
6
الصيف الطويل .. دور المناخ في تغيير الحضارة
براين فاجان
الكاتب عبدالله خميس
7
التقدير الذاتي للطفل
مصطفى أبو سعد
الشاعر جابر الرواحي
8
أثر الفراشة
محمود درويش
القاص يحيى سلام المنذري
9
تحقيق في الذهن البشري
الفيلسوف ديفيد هيوم
الأستاذ خميس العدوي
10
شيكاغو
علاء الأسواني
الكاتبة أميرة الطالعي
11
المياه كلها بلون الغرق
اميل سيوران
الشاعرة فاطمة الشيدي
12
أسرار الصندوق الأسود
غسان شربل
القاص هلال البادي
13
النبي
جبران خليل جبران
القاص مازن حبيب
14
مغامرة منتصف الليل
نهى طبارة
الكاتب حسن اللواتي
15
دع القلق وابدأ الحياة
ديل كارنيجي
الشاعر حسن المطروشي
16
الرمز المفقود
دان براون
المترجم والأكاديمي بدر الجهوري
17
كيف أصبحوا عظماء؟
د. سعد سعود الكريباني
القاص عبدالعزيز الفارسي
18
من أعاد دورنتين ؟
إسماعيل كادريه
الصحفي عاصم الشيدي
19
الأثر المفتوح
امبرتو ايكو
الباحثة عائشة الدرمكي
20
فن الهوى
أوفيد
الشاعر والمترجم أحمد شافعي

اسم البرنامج : كتاب أعجبني
إعداد وتقديم : سليمان المعمري
إخراج : حمد الحبسي
إذاعة سلطنة عمان 1242 am
أو 4ر94 fm
أوقات البث بشكل يومي :
45ر9 صباحا
10ر9 مساء
15ر1 صباح اليوم التالي

الأحد، 29 أغسطس 2010

صالح العامري : النبرة المميزة التي لا يشبهها صوت



( 1 )
كان صالح العامري ولا يزال أحد المؤثرين في المشهد الثقافي العُماني في العشرين سنة الأخيرة، ليس فقط بكتاباته الشعرية والنثرية التي ظل يثري بها الصفحات الثقافية المحلية، ولكن أيضا ببرامجه الاذاعية الثقافية المميزة التي حرص فيها على تقديم كثير من المبدعين والمثقفين العُمانيين بنفس حرصه على تربية الذائقة الأدبية للمستمع وتعريفه بثقافات العالم وكتابات مبدعيه المتنوعة ، وعلى الأخص تلك الكتابات الجديدة ، غير خاضع لسلطة النمط ، ولا لسطوة الأسماء الشهيرة اللامعة ، ومن هنا ظل العامري ينقب في بطون الكتب قديمها وحديثها عما يروي ظمأه هو أولا كمتعطش للمعرفة ، ثم مقدماً لنا اياها على طبق من أثير .. ولأني كنتُ وما زلتُ أحد الشغوفين بما يقدمه صالح العامري عبر أثير الاذاعة فقد آثرتُ أن تكون شهادتي هذه عن دوره التثقيفي المهم الذي قدمه ويقدمه من خلال برامجه الاذاعية ، نائياً بشهادتي عن التورط في الحديث عنه مبدعاً وشاعرا ، تماما كما فعل هو نفسه برشاقة ولباقة في شهادة مماثلة قدمها ذات يوم عن صديقه المبدع عبدالله حبيب متذرعاً بترك الخبز لخبازه .

( 2 )
ان كان من شخص أدين له في دخولي العمل الاعلامي فهو بلا شك الشاعر والاعلامي صالح العامري ، الذي كان في منتصف التسعينات من القرن المنصرم – أي في الفترة التي كنتُ قد تخرجتُ فيها للتو من جامعة السلطان قابوس وبدأتُ رحلة البحث عن عمل – رئيسا لقسم البرامج الثقافية باذاعة سلطنة عُمان .. كنتُ قد تعرفتُ به قبل تخرجي بسنة أو سنتين ، لا أذكر متى بالضبط ولا كيف ، ولكن الأرجح أن ذلك كان بواسطة الصديق المشترك بيننا وزميل الدراسة الكاتب عبدالله خميس الذي عرفني بكثير من المثقفين في تلك الفترة .. كنتُ أسمع بعض برامج صالح العامري في تلك الآونة بنبرته المميزة التي لا يشبهها صوت، وأذكر منها على وجه الخصوص "عالم المسرح" الذي بدأتْ اذاعة سلطنة عُمان بثه عام 1993 واستمر حتى عام 1996 مقدما 133 حلقة عن أهم مسرحيات العالم ومؤلفيها، بدءاً بشكسبير وموليير وابسن ، ومروراً بتوفيق الحكيم وألفريد فرج وسعدالله ونوس ، وليس انتهاء بسماء عيسى .. لعلي كنتُ أتابع هذا البرنامج بالذات بحكم دراستي في قسم الفنون المسرحية .. ولعل هذا هو أيضا – أي دراستي للمسرح - ما جعل أول مقترح لي للتعاون مع الاذاعة باعداد برنامج عنوانه "عباقرة المخرجين في القرن العشرين" الذي تناول حياة وأعمال وفكر كبار المخرجين المسرحيين في العالم الذين عَبَروني في فترة دراستي ، كالروسي ستانسلافيسكي والبريطاني جوردن كريج ، والبولندي جيرزي جروتوفسكي ، والألماني برتولد بريخت وغيرهم .. قدمتُ تصور البرنامج للعامري بصفته رئيسا لقسم البرامج الثقافية متمنيا عليه في حال الموافقة أن يكون هو أحدَ مُقدّمَيْه .. وتمت الموافقة بالفعل بُعيْد أسابيع من تخرجي ، وقدمه صالح مع الزميلة بسمة المعولي بدءاً من يناير 1996 .. واستمر البرنامج بشكل أسبوعي لأكثر من دورة اذاعية ( الدورة الواحدة ثلاثة أشهر ) .. أثناء ذلك كنتُ قد قدمتُ رسالة طلب توظيف في الاذاعة وقابلتُ – بواسطة صالح – مدير عام الاذاعة آنذاك الأستاذ علي بن عبدالله المجيني ، الذي رحب بي ووعدني أن يكون اسمي مدرجاً ضمن المتقدمين لشغل وظائف في أقرب فرصة .. هذه الفرصة الأقرب جاءت بعد حوالي عام من هذه المقابلة العابرة ، حين نُشِرَ اعلان في الجريدة يطلب من 42 اسما التقدم للمقابلة الشخصية في يوم معلوم ، وكانت المفاجأة الصادمة لي أن اسمي لم يكن من بين هذه الأسماء .. فثارت ثائرتي وتقدمتُ برسالة تظلم الى الأستاذة منى المنذري التي خلفت المجيني في منصب مدير عام الاذاعة .. ومختصر الكلام فقد تمت - بمساندة من العامري ومن الأستاذ محمد بن ناصر المعولي الذي كان وقتذاك مدير دائرة التسجيل والمكتبة – اضافة اسمي الى المتقدمين لشغل الوظائف الاعلامية، ونجحتُ في المقابلة لأصبح زميلا لصالح العامري في الاذاعة بدءاً من 1 مارس 1997 ، وهي الزمالة التي لن تدوم للأسف أكثر من عام واحد ، حيث سيقدم صالح تقاعده المبكر عام 1998 ، لكنه لحسن الحظ سيظل متعاونا مع الاذاعة منذ ذلك التاريخ والى اليوم ، وعندما أتأمل هذا الأمر الآن أجد أن تقاعده ذاك خدم الاذاعة أكثر من كونه موظفاً فيها ، اذ أتاح له التفرغ للقراءة المكثفة والنوعية التي كانت سببا في غزارة انتاجه الاذاعي فيما بعد كمتعاون لا كموظف. ظل العامري يرفد الاذاعة بالكثير من الأفكار البرامجية الثقافية المميزة التي صنعتْ منه رمزاً من رموز الاعلام الثقافي في السلطنة .

( 3 )
بعد تخرجي من الجامعة كنتُ متلهفاً لتكثيف قراءاتي وتنويعها في كتب نوعية تثري ثقافتي وتربي ذائقتي على الفن والجمال ، ولكن أنى لي ذلك ومكتبات بلادي تبيع أقلام الرصاص لا الكتب ، وان باعت فليس سوى كتب الطبخ والأبراج وكيف تتكلم اللغات في عدة أيام ؟! .. كنتُ أسمع بأسماء ثقافية مهمة وعناوين كتب بلا أمل في الحصول عليها سوى انتظار معرض مسقط للكتاب ، وعندما يأتي هذا المعرض يكتشف المرء أن ما يفتقده من كتب أكثر بكثير مما يجده . في خضم هذا بدأ صالح العامري في أول يوم من سنة 1997 بث برنامجه الاذاعي الأشهر "كتابات من العالم" الذي كان يقدم فيه "نتفاً وشذرات من فضاء الكتابة الخلاق" كما دأب على القول في ترحيبه بالمستمعين .. كان هذا البرنامج بالنسبة لي بمثابة كنز معرفي ، موسوعة معارف شاملة متنوعة تقدم لمتابعها مقاطع منتقاة من كتابات الأدباء والفلاسفة والمفكرين ، وترشده الى عناوين كتب مهمة كفيلة باثراء ثقافته وتوسيع مداركه .. كل ذلك مقترن بأداء العامري الهادئ البعيد عن التكلف .. لقد بلغ شغفي بهذا البرنامج أني كنتُ أسجل حلقاته وأعيد سماعها في سيارتي وخاصة في تلك الرحلة الطويلة – نسبيا – من مسقط الى صحم .. يصحبني صالح العامري في الطريق كرفيق سفر طيب ، يُسمعني أشعار المتنبي ودرويش وجاك بريفير وريتسوس ، ويسرد لي قصصاً مدهشة لبورخيس وكورتاثار ، يقرأ علي حكم التاو والزن ويُسمعني حكايات ايسوب وأسطورة اللقلق الدانمركي ، يحدثني عن جنون نيتشه وعبقرية بيتهوفن ، ويُلفتني إلى التقاطات باشلار وكليطو .. ومازلتُ إلى اليوم أحتفظ بما لا يقل عن عشرين شريط كاسيت من هذا البرنامج "المخضرم".. وأقول المخضرم لأن العامري بدأ بثه بشكل أسبوعي وهو ما زال موظفاً في الاذاعة، واستمر في تقديمه بعد تقاعده بشكل يومي حتى عام 2006 مقدما خلال هذه السنوات التسع 575 حلقة اذاعية .. ولأنني حفظتُ كثيرا من الشذرات التي سمعتُها تحديدا في هذا البرنامج ، ثم استشهدتُ بها بعد ذلك في كثير من مقالاتي سأقول إنني أدين بـ"ثقافتي" ( ان جاز التعبير ) لرجل اسمه صالح العامري .

( 4 )
بدأت رحلة صالح العامري الاذاعية ببرنامج "مرايا ثقافية" الذي قدمه سنة 1989 – أي بعد سنة واحدة من توظفه في الاذاعة – وهو برنامج أسبوعي مدته ساعة يطرح على بساط الحوار قضايا ثقافية مرتبطة بالمشهد الثقافي العُماني آنذاك، مستضيفاً عددا من المثقفين العمانيين الذين لهم اسهاماتهم في هذا المشهد كالأستاذ أحمد الفلاحي والشاعر هلال العامري والدكتور محمد الذهب .. هذه الحوارات الثقافية المتعمقة سيخرج بها صالح بعد ذلك من الاطار المحلي الى اطار عربي أوسع في برنامجه الآخر "وجوه وأسئلة" الذي بدأ بثه عام 1990 وحاور فيه العامري نخبة من المثقفين العرب كالشاعر سيف الرحبي والناقدين عبدالله الغذامي ويمنى العيد، والمسرحي عوني كرومي والأديب عبدالقادر عقيل والدكتور محمد الرميحي وعبد الواحد لؤلؤة وغيرهم .. في السنة نفسها (1990 ) قدم صالح برنامجاً يوميا من اعداد هزاع بن جمعة الفارسي بعنوان "مصابيح فكرية" يعرف مستمعيه على مدى تسعين حلقة ببعض المصطلحات في الفكر والأدب والفن . وهذا البرنامج هو من البرامج القليلة التي اكتفى فيها صالح بالتقديم فقط من دون الاعداد ، تماما كما سيفعل لاحقا في "عباقرة المخرجين" سالف الذكر .. بعد ذلك بعامين ، أي عام 1992 قدم صالح العامري برنامج "الملتقى الثقافي" الذي شاركته تقديمه المذيعة بسمة المعولي وتضمن قطوفاً ثقافية مختارة من شعر وسرد وفكر ومسامع من أمسيات شعرية ومحاضرات ثقافية ، وأذكر أنني استفدتُ من هذا البرنامج مؤخراً باستلال مسمع من محاضرة للمفكر محمد بن عابد الجابري أثناء تغطية برنامجي "المشهد الثقافي" لرحيل هذا المفكر العربي قبل عدة أسابيع .. وفي العام نفسه ( 1992 ) قدم صالح برنامج "من الأدب الخليجي" الذي استضاف خلاله على مدى 39 حلقة العديد من الأدباء الخليجيين .. ستمضي سنة واحدة ليبدأ عام 1993 برنامجه "عالم المسرح" الذي سبقت الاشارة اليه ، ثم بعدها بعامين يقدم العامري برنامج "قضايا وآراء" ( 1995 ) الذي يستفيد خلاله من لقاءات مع كثير من الأدباء والمفكرين العرب سجلها أثناء رحلة له في عدد من المدن العربية .. وفي عام 1997 بدأ بتقديم "كتابات من العالم" كما سبقت الاشارة ، ثم قدم عام 1998 برنامج "مفاهيم نقدية" الذي يعرض بالشرح والتحليل -وكما يتضح من العنوان - بعض المفاهيم التي تعورف عليها في النقد الأدبي كالإبداع والسيرة الذاتية والنقد المقارن وغيرها .. أما في عام 1999 فقد قدم برنامجه "أنفاس مبدعة" الذي سلط فيه الضوء على مبدعين عالميين وعرب أثروا العالم بأدبهم ولغتهم وخيالهم الخصب من أمثال بورخيس وريلكه والمتنبي ولوركا وطاغور ، معرجاً كذلك على أدباء عمانيين كسماء عيسى وزاهر الغافري ومحمد الحارثي وناصر العلوي وعبدالله الريامي ويحيى اللزامي .
وعندما تأتي الألفية الجديدة يستقبلها صالح سنة 2002 ببرنامج "ظلال المعنى" الذي شاركته تقديمه المذيعة هند الحجري وتناول فيه في كل حلقة كلمة عربيةً ما ( الروح ، الضحك ، الذكرى ، السر ، الحب ، النار ، الخ ) متتبعا معانيها المختلفة في اللغة وأهم ما كتبه الأدباء والفلاسفة والمفكرون حول هذه الكلمة ، وهو برنامج شبيه الى حد ما ببرنامج آخر سيقدمه العامري عام 2007 بعنوان "كلمات ليست كالكلمات" .. وهذه السنة أيضا ( 2007 ) شهدت ثلاثة برامج أخرى لصالح العامري هي : "رهافة الوصف" الذي تناول في نحو 30 حلقة أجمل ما قيل في وصف الكائنات والأشياء ، كوصف العمى لبورخيس والمعري ، ووصف الطبيعة لجوته ، ووصف موت ظبية حي بن يقظان لابن طفيل ، ووصف الغربة والغريب لأبي حيان التوحيدي ، ووصف الذئب للشنفرى ، وبرنامج "شواخص فنية" الذي سلط الضوء على عدد من الأعمال التشكيلية الخالدة لعدد من فناني العالم كرمبرانت وبيكاسو وفان جوخ وخوان ميرو ، وبرنامج "من روائع الرواية العالمية" الذي تناول فيه عددا من الروايات العالمية المهمة كـ"الجريمة والعقاب " لدستويفسكي، و"موبي ديك" لهرمان ميلفيل، و"كائن لا تحتمل خفته" لكونديرا ، و"موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح ، وفي هذا البرنامج اكتفى العامري بالاعداد تاركاً مهمة التقديم للمذيعَيْن سعيد الزدجالي وباسمة الراجحي، وهو الأمر ذاته الذي تكرر في البرنامج الصباحي "أشواق الصباح" الذي كتبه العامري عام 2009 بلغة شعرية أخاذة وقدمه المذيعان عايدة الزدجالي وسعيد العميري .

( 5 )
نصل الى سنة 2008م التي نستطيع القول بشيء من اليقين بأنها السنة الأغزر انتاجاً اذاعياً لصالح العامري ، حيث قدم فيها وحدها سبعة برامج ، هي : "كيف رحل هؤلاء" الذي شاركته تقديمه هند الحجري وقدم فيه سرداً للأيام الأخيرة في حياة نحو ثمانين من مشاهير الأدب والفكر والفن كالحطيئة وابن المقفع وأمل دنقل ودستويفسكي ونوفاليس ، وغيرهم .. ثم برنامج "مدن ومشاهير" الذي تناول فيه ثلاثين مدينة عربية وعالمية وأهم المشاهير الذين ارتبطت بهم هذه المدن وما كتبوه وقالوه عنها ، وبرنامج "رسائل" الذي قدم فيه اثنتين وثمانين رسالة مختلفة لمشاهير الأدب والفكر والفن ، كرسائل جبران خليل جبران لمي زيادة ، ونزار قباني لأمه ، وفيرتر لوليم في رائعة الألماني جوته "آلام فيرتر" وغيرها ، وبرنامج "وجوه وظلال" الذي قدم فيه نحو ستين مهنة أو صفة بشرية وما قيل أو كتب فيها من شذرات أدبية وفلسفية كالحطاب والراعي والجندي والفلاح والحارس والمهرج ، الخ ، وبرنامج "لقاءات الزمن الواحد" الذي عرض فيه في كل حلقة من حلقاته الثلاثين الجوانب المشتركة بين شخصيتين شهيرتين عاشتا في زمن واحد مثل امرؤ القيس وعلقمة الفحل ، ولاو تسو وكونفوشيوس ، ورامبو وفيرلين ، وبرتراند راسل وهنري برجسون، وغيرهم ، وبرنامج "وشائج خالدة" الذي تناول فيه صلات ربطت بين شخصيات ثقافية في علاقات كان لها دور في هذه الشخصيات كعلاقة المتنبي بجدته ، والسياب بأمه، وجمال الدين الأفغاني بمحمد عبده ، وسقراط بأفلاطون ، ولوركا بأصدقائه ، وبرنامج "علامات دامغة" الذي سلط الضوء على علامةٍ ما اشتهر بها أحد المشاهير كمصباح علاء الدين، وعُود الفارابي، وديك سقراط، وغراب قابيل ، وحذاء امبادوقليس .
( 6 )
في عام 2009 قدم صالح العامري برنامج "رؤى" الذي ينتقي بعض الشذرات المكتوبة من قبل أدباء ومفكرين وفلاسفة ، والتي تعبر عن رؤاهم في مواضيع متنوعة ، وقد قدم من هذا البرنامج 169 حلقة ، كما أعد البرنامج الصباحي "أشواق الصباح" الذي سلفت الاشارة اليه ، علاوة على استمرار برنامج "كيف رحل هؤلاء؟" الذي بدأ عام 2008 . وأخيرا وليس آخرا برنامج "أقنعة فنية" الذي قدم ثلاثين شخصية شهيرة في الأدب والفلسفة والثقافة العالمية اختارت الظهور بغير أسمائها الحقيقية ، كأدونيس ومارك توين .
أما في عام 2010 فقد قدم برنامج "يوميات وذكريات" في نحو 150 حلقة تقدم كل منها جانباً من أدب السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات للعديد من الأدباء والمفكرين والفنانين مثل محمود درويش ونزار قباني وصبحي حديدي وجان جاك روسو وسلفادور دالي وغيرهم . أما البرنامج الآخر الذي قدمه في 2010 فهو "ثنائيات" الذي يتناول مفردتين متضادتين ( كالقوة والضعف ، والصمت والكلام ، الخ ) وما قيل وكتب عنهما في الأدب والفكر والعلوم .
( 7 )
حاور صالح العامري خلال مسيرته الاعلامية التي تجاوزت العشرين عاما عشرات المثقفين العمانيين والعرب ، ولكنه للأسف يرفض حتى اليوم أن يكون هو المحاوَر ( بفتح الواو ) ، ولقد باءت كل المحاولات لمحاورتِه – مني ومن غيري – بالفشل ، وأقصى ما استطعتُ الظفر به منه شهادتان مسجلتان للبرنامجين الاذاعيين "حوارات ثقافية" ، و"ساعة مع قاص" ( عام 2006 ) عن صديقيه المبدعَيْن عبدالله حبيب وزاهر الغافري ، هما من أجمل الشهادات التي قُدمتْ في ذينك البرنامجين .
( 8 )
يختتم صالح العامري احدى شهادتيه الاذاعيتين اللتين أشرتُ اليهما أعلاه ، بهذه العبارة التي لا أجد أنسب منها لأختتم أنا بدوري شهادتي عنه :
"ما يبقى هو القلب ، القلب اليتيم المحصن عن التلوث ، القلب المنخرط في الحنين والحب ، في السؤال والكتابة" .






الأربعاء، 7 يوليو 2010

يوميات بيروت


لا يرى بيروت الا من كان بصر عينيه في قلبه



الخميس 24 يونيو 2010 :



مساءً نخرج للتنزه على الكورنيش فتكافئنا بيروت بالمطر .. انها تمطر في عز الصيف .. مطر ليليٌّ حانٍ يحيل المشي من مجرد رياضة الى عناق للمطلق .. بيروت أحبتْنا ، ما في ذلك شك .. فسأعرف لاحقا من موظف استقبال الفندق أنها نادرا ما تمطر في الصيف .. ولا أظن خالد الزيدي مخطئاً أو طاعناً في الرومانسية عندما اعتبر أن "هذه دموع بيروت لاقتراب رحيلنا" .. البشر الذين كانوا يملأون الكورنيش وأرصفته اختفوا فجأة مع المطر .. علق سالم الرحبي : " أهل بيروت أدرى بأزقتها ومخابئها السرية ". لا يرى بيروت إلا من كان بصر عينيه في قلبه، لا بصر قلبه في عينيه ، فمهما ادعيتَ أنك أحببتَ هذه المدينة وأحبتك فلن تستطيع المجازفة بالزعم أنك عرفتَها .. انها فتاة لعوب لا تبدي لك من مفاتنها الا ما يشجعك على التوغل فيها أكثر ، وفي اللحظة المناسبة تعرف كيف تتملص منك بلباقة ، تماما كما فعلتْ بخالد الذي من فرط غوايته بها طلب يدها للزواج فرفضته على الفور، ولكي لا تؤذي مشاعره هدهدتْه الى أن نام، وحين استيقظ كان يظن أن ما جرى ليس أكثر من حلم !! ..
من على شرفة الغرفة 504 في الطابق الخامس لفندق Sultan Palace يمكن مشاهدة أهل بيروت يسعون في مناكبها كالنمل يحرسهم صوت المؤذن وأبواق السيارت وأنين محركات الدراجات .. والمتسولة التي اعتادت الجلوس أمام مدخل الفندق مادةً يديها للمارة احترمت رغبة المطر فابتعدتْ ..
بيروت في المطر مدينة مختلفة تماما .

صباح الأربعاء 23 يونيو 2010 :



لا أحد يستطيع أن يحدس ما الذي تفكر فيه امرأة حامل تنظر الى نفسها في المرآة عارية ! ॥ لعلها تستحضر شعور طفلها حين سينقذف الى هذه الفانية بعد شهرين أو يومين ، أو ثلاث دقائق ، لا فرق .. لا يمكن أن يكون نبيل مروة قد وضع هذه اللوحة بالذات اعتباطا .. هكذا في واجهة مكتبه ، أعلى الكرسي الذي يجلس عليه مباشرة، بحيث تكون في مواجهة الجالس أمامه । هناك أكثر من تأويل لهذا الأمر .. كناشر عربي مهمّ لا بد أنه يدرك أن مكتبه هذا قِبلة لكثير من الكتّاب والأدباء العرب .. المسألة اذن أنه يُجلس الكاتبَ أمامه ويقول له بطريقة بليغة وهادئة وغير مباشرة : أنت أيضا حامل بكتابك هذا الذي تُريد نشره ، وأنا القابلة .. ولكن ، ما لم يكن كتابك يعبر عنك بصدق وشفافية ويجعلك تتأمل ذاتك وعُريك بعمق كما تتأمل هذه المرأة الحامل نفسها في اللوحة فعليك أن تبحث عن دار نشر أخرى .. هذا ان كان الجالس كاتباً أو فناناً ، ولكن ماذا لو كان مُجالِسُ نبيل مروة مجرد قارئ عادي وممن يستهجنون العُري في الفن .. لعل الرسالة المبطنة هنا اذن هي : "كلمني بتواضع من فضلك ، وانظر الى عيني مباشرة ، أما ان رفعتَ عينك عني فلن ترى الا العُري" .. سألتُه : لمن هذه اللوحة ؟ ، أمال رأسه للخلف وتأملها ثم قال : "هي لفنانة لبنانية اسمها ريم الجندي ، والمرأة التي في اللوحة بالمناسبة هي نفسها ريم التي رسمتْ نفسها وهي حامل" .. هذا لزوم ما لا يلزم يا أبا علي .. لماذا تشوش على خيالي وتمنعني من أسطرة امرأة اللوحة باحالتها الى واقع !! .. "وهذه لوحة أخرى لنفس الفنانة على الحائط خلفك" يضيف .. ألتفت للخلف فأرى أمرأة أخرى بثدي عار ولكن لا يبدو أنها حامل .. أفكر أنهما لوحتان تصلحان بامتياز لأحد أعداد مجلة "جسد" التي قلتُ لمروّة انها أكثر (كتاب) أُوصيتُ به من عُمان !! ..
فيما بعد ، وتحديداً في مساء اليوم ذاته - حيث سأكون مدعواً لعشاء في بيت صاحب "الانتشار العربي" بصحبة الزميلتين هدى وجميلة الجهوريتين – سأتأكد الى أي مدى هو عاشق للفن التشكيلي هذا الـ"نبيل مروة" .. فها هي صالة بيته تزدحم بلوحات متنوعة لفنانين لبنانيين وعراقيين ويمنيين، بل وعُمانيين.. فهذه لوحة مهداة اليه خصيصا من الفنانة نادرة محمود ممهورة بتوقيعها المؤرخ سنة 1993 ، هذه الفنانة التي لم يمض شهران على وقوفي شاهداً ( مع الصديق عبدالرزاق الربيعي ) على اعجاب الفنان نصير شمة الشديد بلوحاتها التي رآها أثناء زيارته الجمعية العمانية للفنون التشكيلية ، الى درجة أنه قرر أن يبحث عن هاتفها ليدعوها بنفسه الى حفلة العود بالجامعة .

مساء الأربعاء : 23 يونيو 2010



دوي طلقة كبيرة أقرب الى الانفجار ، مصحوبة بزعيق أبواق مزعج .. يهب نديم على الفور خارجاً من الصالة ، ليعود بعد دقيقة معلنا : "ألمانيا سجلت هدفا" .. نواصل حوارنا الذي قطعتْه فرحة الهدف .. نعود الى الحديث عن ربيع جابر وعبده خال وعادات التنميط التي تقع ضحيتها بعض المجتمعات العربية .. كنا قد وصلنا - أنا والجهوريتان - الى بيت نبيل مروة في سيارة ابنه نديم ، لنجد في انتظارنا أيضا ضيوفاً آخرين منهم حسن ياغي مدير المركز الثقافي العربي الذي نشر لجمعية الكتاّب مؤخرا كتاب "الكلمة بين فضاءات الحرية وحدود المساءلة " .. أسأله عن سر غيابه عن معرض مسقط الأخير فيعتذر مؤكدا أن حالة وفاة هي ما منعه من الحضور .. انفجار آخر مدوٍّ يُخرِجُ نديماً مرة أخرى .. يعود ولكن أصوات الانفجارات المصحوبة بالأبواق المزعجة لم تتوقف .. يعلن نديم : "ألمانيا فازت على غانا " .
من يرى بيروت هذه الأيام يظن أنها هي من يستضيف المونديال لا جنوب أفريقيا .. أعلام الدول المرشحة للفوز في كل مكان .. البرازيل في المقام الأول ( نظرا لأن كثيرا من اللبنانيين يقيمون هناك ، كما يحلل الكاتب والاعلامي وليد شميط ) ، ثم ألمانيا .. وبدرجة أقل الأرجنتين وايطاليا وفرنسا .. الشاشات الضخمة تملأ المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية .. والأعلام تزين السيارات وواجهات المحلات .. هيكل حداد ( رئيس تحرير العلاقات العربية بدار الصياد في لبنان ) يخبرنا ونحن متجهون الى رأس النبع – فيما يشبه الاعتذار - أن ابنه هو من وضع علم البرازيل في مقدمة سيارته .. احتفالات فوز ألمانيا يتعالى صخبها فتفتح أم علي النافذة لتنظر .. لبناني منزعج يخرج من شرفته في الطابق السادس ليسكب الماء فوق المحتفلين الشباب وهو يصرخ بعبارات شتم .. انفجار قوي آخر يرغم أم علي على غلق النافذة بسرعة وكأنها بذلك ستمنع الصوت من الدخول .. تسألها هدى : "هل تحتفلون هكذا عندما يفوز منتخب لبنان " ، ترد أم علي على الفور : "مش لما نفوز .. لما نموت ما حدا دريان فينا " ! .

مساء السبت: 26 يونيو 2010



هل أطلب منه ذلك الآن ؟! .. ولكن ماذا لو ربط طلبي بالمعلومات التي ذكرها قبل قليل ، ألن يتشاءم مني ؟! .. سأظل ممزقا بين هذين الخيارين فيما يواصل هو تعريفي بالمنطقة .. كنا قبل قليل قد قرأنا الفاتحة على ضريح رفيق الحريري ، وشاهدنا أكاليل الزهور الموضوعة على قبره ، ثم ها نحن نتجول في المنطقة المحيطة .. يتحدث وليد شميط عن التنوع المعماري المهم الذي تزخر به بنايات ساحة النجمة ، والذي يعكس عدة حضارات انسانية .. هنا مبنى مجلس النواب اللبناني ، وبالقرب منه مبنى صحيفة الحياة ، وأسفل منه مقر مؤسسة الفكر العربي .. ليس لهذه الأسباب فقط تبقى ساحة النجمة مزاراً سياحيا مهمّا ..بل أيضا لوجود مقهى "L,ETOILE" أو النجمة .. هل أطلب منه أن نجلس فيه قليلا ؟! .. كلا .. سيتشاءم .. فقد أخبرني للتو أن هذا هو آخر مكان جلس فيه رفيق الحريري قبل اغتياله .. كان ذلك قبل خمس سنوات ، حين خرج رئيس الوزراء اللبناني الأسبق مبكراً من جلسة مجلس النواب فقرر أن يستريح قليلا في مقهى "L,ETOILE المجاور .. سيشرب الحريري قهوته أو شايه ( لا أدري بالضبط ماذا شرب في ذلك اليوم ) ثم سيغادر موكبه المكان ، ليكون بعد دقائق معدودة الخبر الأول في كل وكالات أنباء وفضائيات العالم ، ولتتناقل هذه الفضائيات صورة الشاب اللبناني الذي كان يحترق أمام العالم .
أذكر ذلك اليوم جيدا ، فقد كتبتُ من وحيه مقالاً لصحيفة عُمان عنوانه "حبك نار" ربطتُ فيه بين النار التي خلفها ذلك الانفجار الضخم وبين تاريخ 14 فبراير الذي وقعتْ فيه الحادثة ، والذي هو للمفارقة يوم عيد الحب ! ..
- مش عم بترد
يقول وليد شميط بنبرة لا تخلو من القلق على زوجته الروائية رفيف فتوح التي خلفناها وراءنا في مكان قريب من ساحة النجمة وبصحبتها هدى وجميلة .. ولكنهن ما يلبثن أن يظهرن فجأة فيقترح شميط أن نقعد قليلا في مقهى لنرتاح ونشرب شيئا .. قلتُ على الفور : "يا ريت " وأنا أمني النفس أن يختار مقهى L,ETOILE الذي يبعد عنا خطوات قليلة .
ولكنه اختار مقهى آخر ।



الأثنين 21 يونيو 2010:



الساعة الثانية ليلا .. أقلب القنوات بسرعة بحثاً عن قناة عُمان.. لا أنتظر برنامجا بعينه ، بل فقط هي عادة أَلِفتُها في سفري أن أبحث عن وطني في التليفزيون .. كالعادة ليست الفضائية العُمانية من القنوات الفضائية المفضلة لدى الفنادق العربية .. مديرها العام سيصل لبيروت بعد عدة أيام بصحبة مدير البرامج ، ولكن بالتأكيد ليس ليتأكدا أن قناة عُمان تبث في الفنادق البيروتية .. أتوقف عند قناة الجديد اللبنانية وصورة مألوفة لدي .. يا الهي ! .. هذه فيروز .. أخييييراً رأيتُ فيروز تتحدث لا تغني .. مرة قرأتُ أننا نحب فيروز كثيرا لأنا لا نسمعها تتحدث .. السنوات الأربع والسبعون بادية على محياها ارهاقا وحزناً على شيء ما .. لعله الحنين للرجل الذي تتحدث عنه، والذي سأعرف لاحقا من الصديق النمام جوجل الانترنتي أن اليوم هو ذكرى رحيله الرابعة والعشرون ( مات في 21 يونيو 1986 ، وهو ما يجعلني أجزم أن فيروز لا يمكن البتة أن تكون استمتعت بمونديال مارادونا في المكسيك ) .. كان عاصي الرحباني شريك حياة بمعنى الكلمة : فهو لم يكن زوجاً لفيروز وأباً لأبنائها الأربعة فحسب، بل قبل ذلك وأثناءه وبعده مكتشفاً وراعيا وحارساً أمينا لموهبتها الفذة .. كانت تتحدث عنه بحب شديد " حبيت صور عاصي ومطارحو ، ودخلت عليها وما عاد فيي اطلع منها ( ... ) ترك لنا جمال كتير وفل بكير " ، وان أمكن من بين كلمات الحب تلك استنتاج الى أي مدى كان عاصي صارماً وديكتاتورا في تعامله مع فيروز ومع فرقته الموسيقية "في الوقت، هوّي اللي بيقول كل الإشيا وبيحدِّد، الحقيقة مع الوقت" .. أجمل ما في الفيلم بساطته ، فقد كان يتنقل برشاقة بين كلام فيروز البسيط الذي يبدو أنه ارتجالي عن عاصي ، وكلامه هو عن نفسه من خلال لقطات ممنتجة من مقابلات تليفزيونية قديمة بالأبيض والأسود ، مدعماً ذلك بمقاطع من أغاني فيروز الرحبانية وأفلامها ومسرحياتها .. كانت الكاميرا تركز على وجه فيروز في لقطة مقربة ، لدرجة أنها حتى حين يغلبها الحزن ويتهدج صوتها فتصمت لثوان قليلة تظل اللقطة ثابتة على وجهها الى أن تستعيد رباطة جأشها وتعود للكلام من جديد .. قالت فيروز انها كانت بجوار عاصي وهو يعزف الموسيقى ، فسمعت صوت تنفسه فخامرها الخوف عليه من أن يكون هو خائفاً عليها !.. من حديث فيروز أستطيع أن أحدس أن عدم ظهورها في حوارات اذاعية أو تليفزيونية كان خطة عاصيّة ( نسبة الى عاصي ) لحراسة موهبتها ، فهي تحكي الآن أنه كان يمنعها حتى من تحية الجمهور بحجة أن عملها/ غناءها هو فقط الذي يفترض أن يكون معبرا عنها ، ومرة واحدة فقط سمح لها بعد احدى المسرحيات – وبعد الحاح منها – أن تعود الى المسرح لتحيي جمهورها !.
السؤال الذي يتبادر الى ذهني الآن : أين زياد من كل هذا ؟ .. صحيح أن الذكرى هي ذكرى عاصي ، ولكن أليس زياد بذرةً منه ؟! .. ألم يلحن زياد "سألوني الناس" عندما كان أبوه راقداً في المستشفى ؟! ، ألم يكن عاصي من المعجبين بـ"ع هدير البوسطة" لدرجة أنه هو من قرر أن تغنيها فيروز ؟!! .. على الأقل كنتُ أتمنى أن أعرف لماذا أصبح زياد مختلفاً ؟! هل لنظرية قتل الأب دور في هذا ؟! ، وكيف رضيت فيروز بالانسياق وراء زياد ؟! ، هل هي العاطفة الأمومية التي تسعى لانجاح ولدها بأية طريقة حتى وان لم تكن مقتنعةً بها ؟ ، أم هي ديكتاتورية الزوج التي جعلتها تسعى للتنفس عن طريق الابن ؟ أتُراها رأت فيه صورة والده التي أحبتها ؟!، أم أنها فعلا مقتعة بتجديد زياد في الموسيقى ؟! .. ستزداد حيرتي أكثر حين أعرف في نهاية الفيلم أن مخرجته ومنتجته هي ريما الرحباني ابنة فيروز وعاصي وشقيقة زياد !! .. " اذا كان الفيلم عائلياً محضاً فأين زياد يا ريما ؟ " سألتُ جوجل فيما بعد ، فأجاب بتصريح منها أن ذلك مرده إلى عفوية الفيلم وعدم التخطيط له "فكل شيء جرى دون تخطيط وفجأة ، وكان التصوير في عشرة أيام فقط" ! .. قالت "عفوية" قالت .. حسنٌ يا ريما .. كل شيء جائز ، ولكني أعرف أن يوم القيامة فقط هو الذي ينشغل فيه الولد عن أبيه ، وأمه وبنيه ، وفصيلته التي تؤويه!. ثم ألا تقولين في التصريح ذاته ان "محاولات تجاهل عاصي وتزوير تاريخه دفعني لإنتاج الفيلم" ، ألا يعني هذا أن ثمة تخطيطا وراء الفيلم ، وقراراً نابعاً عن تفكير !! ..
الآن أنا أستمع لأغنية "لبيروت مني سلام " في السي دي الذي تلقيتُه هدية من الأستاذ حسان الزين قبل يوم من رحلينا عن بيروت ، ولا يزال حلمي القديم الجديد يتراقص داخلي بيأس : "متى سأرى فيروز تغني في مسقط ؟! "

صباح السبت 26 يونيو 2010 :



حدث هذا في مكتبة "واي ان" .. شعور لذيذ عصي على الوصف أن تدخل مكتبة للبحث عن كتاب لأحد كتابك المفضّلين ، وحين تمسح بعينك المكان بحثا عن هذا الكتاب اذا بها ترتطم بكتاب آخر : كتابك أنت ! .. كنتُ أبحث في الأرفف عن كتاب حوارات محمود درويش مع الشاعر والصحفي عبده وازن ، حين سمعتُ صوتاً ليس غريبا عني : "هاي .. ألا تتذكرني يا صاح .. أنا ابنك ؟! " قالها الكتاب بنشوة .. أحمل "القمر" في يدي وأحضنه .. يسألني : "أين أبي الثاني ؟ " ، أجيبه بحنان : " في كندا .. قد يأتي ذات يوم ويراك صدفة أيضا" .. أمسح الغبار عن وجهه وأعيده الى رفّه ، وأذهب لأسأل أمين المكتبة "أين أجد كتاب "يقع الغريب على نفسه" ؟ .. بعد أن نقر على الحاسوب اعتذر الأمين عن عدم توفر نسخ من هذا الكتاب ، ولكني حين خرجتُ كان يخالجني شعور أنني أنا ذلك الغريب الذي وقع على نفسه ! .
بيروت هي مدينة الكتب بامتياز .. تفصل بين المكتبة والمكتبة مكتبة ثالثة .. وعلى المرء أن يكبحأنأن يكون مدرباً نفسه جيدا على كبح جماحه أمام الكتب والا لكانت كل مشترياته من بيروت كتبا .. ومن كان مثلي معبأ بعقدة الكتاب العُماني وانتشاره فقد كان طبيعيا جدا أن يصرف تركيزاً أكثر لاكتشاف كتب عُمانية في هذه المكتبات .. لم تكن الحصيلة سيئة ، فقدر رأيت كتابي في مكتبة انطوان ، و"كورون" علي الصوافي ودراسة رفيعة الطالعي عن الرواية في الخليج في مكتبة بيسان ، و"سيدات قمر" جوخة الحارثي في مكتبة "فيرجن" . وفي هذه المكتبة الأخيرة ثمة طريقة مبتكرة لترويج الكتاب وتسويقه .. تصطف الكتب على جانبي الدرج المؤدي للطابق الثاني الذي تباع فيه الكتب .. يصعد الزائر وهو يتأمل في الدرج عناوين الكتب التي ستكون بانتظاره .. عرفتُ من وليد شميط - مرافقي في رحلتي لهذه المكتبة - أن "فيرجن" هي مكتبة عالمية لها أفرع كثيرة في العالم ، ولكن لا يوجد في الوطن العربي الا فرع بيروت ، وقد أسسها مثققف بريطاني يُدعى ريتشارد برنسون بهدف تشجيع الشباب على القراءة من خلال بيع الكتاب جنبا الى جنب مع الموسيقى والأجهزة الالكترونية .
ثمة كتب جديدة كنتُ أرتطم بها في معظم المكتبات التي زرتُها ، وهي تكشف الى أي مدى ذوق قراء بيروت متنوع ومتعدد الاتجاهات .. من هذه الكتب : "رياض الصلح" لباتريك سيل ، "أبناء ودماء" رواية لمياء بن ماجد بن سعود ، "اقتل خالد .. عملية الموساد الفاشلة لاغتيال خالد مشعل وصعود حماس" لبول ماغوو ، "الأمير بندر بن سلطان" لوليم سيمبسون .. "العز في القناعة ..رأس الخيمة ومحيطها قبل النفط" لوليام وفيدلتي لانكستر ، "بيروت في قصائد الشعراء .. دراسة ومختارات" لشوقي بزيع ، "صلاة ، طعام ، حب .. امرأة تبحث عن كل شيء" لاليزابيث جيلبرت ، "اللوح الأزرق" لجيلبرت سينويه ، والمجموعة الكاملة لجبران خليل جبران بالعربية .

الأحد : 27 يونيو 2010



طلبٌ غريبٌ من شرطي مطار رفيق الحريري لثلاثة شبان عُمانيين على وشك مغادرة بيروت وهم يلهجون بحبها .. طلبٌ بالاشارة فقط ، فهو لا يعرف أن اسمها "كمة" .. كنا قد خرجنا من فندق Sultan Palace قبل ذلك بحوالي نصف ساعة مرتدين دشاديش بدون اتفاق مسبق .. ولأنه زينا الرسمي فان لكل دشداشة كمّة مساوية لها في الاعتبار ومتعالية عليها في الاتجاه .. وحده خالد الزيدي ارتدى القميص والبنطال برأس حافٍ ، وعينين مسددتين للفراغ ، معفياً نفسه من مواقف غير محسوبة .. "ارفعوا الكمة اذن لنرى ماذا تخبئ رؤوسكم " قالها الشرطي بيده .. لحظتها أمكن سماع ضحكة صلعة سالم فَرِحة بفرصة غير متوقعة للتنفس في الهواء الطلق .. رفع سالم كمته الخضراء فطارت فكرة من رأسه وحطت على يد الشرطي ، تأملها هذا الأخير بتركيز شديد سبق أن تدرب عليه : رأى حنيناً لطفلين صغيرين وأمهما، وانتظاراً لشهادة جامعية من بلاد بعيدة ، وشيوخاً هرمين ينظرون اليه بتوجس وهو يمد اليهم ميكروفونا صغيرا ويسأل : "أين كنتَ قبل أربعين عاما ؟ ".. عادت الكمة الى صلعة سالم من غير سوء فوجه الشرطي اشارته الى كمة خميس الزرقاء الفاتحة .. طارت أفكار خميس بعيداً عن الشرطي الذي ظل يلاحقها بعينيه : رأى صفحة طويلة يزدحم فيها شعراء ومتشعرون ، وسيمون وبدناء .. وطفلا صغيرا يزحف الى المطبخ محاولاً أكل السخام .. وبيتين من قصيدة جديدة :
تدري الزمن ظالم أنا أيش سوا لي ؟! ... حملني جدار همي "م" أكثر طياحه
خذني وانا المنكسر بي ضايق بالي ... هو الشقا لي وباقي الناس مرتاحة
واذا كنتُ أنا من "باقي الناس" الذين أشار اليهم خميس الا أنني لم أكُ مرتاحاً البتة بخلع كمتي الصفراء .. فما ان ارتفعتْ بضعة سنتمترات عن رأسي حتى طارت أفكار كثيرة كان يمكن أن تكون صالحة لهذه اليوميات ، ولم يتبق لي سوى الكتابة عن ثيمة خلع الكمة ! .
ولكن مهلا ، لماذا هذا التهكم ؟! .. هل تجاوز الرجل حدود وظيفته ؟! .. لماذا لا ننظر للأمر من زاويته المشرقة : هناك منفذ للتهريب خاص فقط بنا نحن العُمانيين .. علينا أن نفخر بذلك .. علينا أن نفخر بأن الكمة عمانية حتى وان كانت ذات أصل أفريقي ، فالعبرة بالخواتيم لا بالبدايات .. فمن قال ان الديمقراطية التي تصم بها أمريكا آذاننا ليل نهار هي أمريكية الأصل ؟! .. ثم هل كان ذلك موقفاً موجهاً ضد الكمة ؟! .. ألا يطلبون في بعض المطارات من أصحاب البناطيل ( ومنهم لبنانيون بالتأكيد ) أن يخلعوا أحزمة بناطيلهم أمام العالم ؟! .. ناهيك عن أن هناك زاوية ثالثة للنظر لهذا الأمر : بيروت تسألنا – عن طريق أحد أبنائها المخلصين الساهرين على أمنها وسلامتها - : "كيف كانت رحلتكم ؟! وكيف وجدتم كَرَمي ؟ هل ترفعون له القبعة ؟!" .. نعم .. نرفع لك القبعة يا بيروت .. نرفع لك الكمة .

الاثنين، 28 يونيو 2010

وأنت .. ماذا ستعطين دمي أيتها الغيوم ؟!*


عن سماء عيسى مثقفا وانسانا

( 1 )

لا أذكر متى بالضبط سمعتُ باسم سماء عيسى لأول مرة.. لعل ذلك كان في بداية التسعينيات، حيث كنتُ متابعاً شغوفاً للملحق الثقافي لصحيفة عمان الذي كان يصدر كل خميس .. كنتُ أشعر بالرهبة لمجرد سماع الاسم : سماء عيسى .. لم نتعود على هكذا أسماء في عُمان .. تُرى لماذا اسم هذا الشاعر مختلف عن البقية!.. غموض الاسم يشدك الى صاحبه ،"الجميل هو الغامض " ، لعل بودلير قال شيئا كهذا ، و" ما الجمال إلا بداية الرعب" كما يقول ريلكه.. شيئا فشيئا بدأتُ أتعرف على هذا الشاعر عن بعد ، عن طريق زميلي في الدراسة الجامعية آنذاك الكاتب عبدالله خميس ، الذي لم أعد أذكر أهو أم غيره من أعارني كتاب "نقد الأمل" لقاسم حداد المتضمن مقالة عنوانها "سماء عيسى" ، وكنتُ أتساءل قبل أن أقرأ المقالة بالقدر الذي يتيحه لي وعيي آنذاك : لماذا يضمّن حداد سماء عيسى في كتاب عن الأمل ؟!! ، ما علاقة هذا الأخير بالأمل وأنت يكفيك فقط أن تتأمل عناوين كتبه التي صدرت حتى تلك الفترة ( "نذير بفجيعة ما" ، "مناحة على أرواح عابدات الفرفارة" ، "لا شيء يوقف الكارثة" ) لتدرك أنْ لا أمل ولا ولا تفاؤل ولا حياة ، وليس سوى الموت والفجيعة واليأس .. غير أن قاسم حداد لم ينس توضيح هذا الالتباس في مقالته تلك بتأكيده أن "الأمل ليس في أن تهبنا إياه القصيدة، الأمل في درجة اليأس الذي تدفعنا إليه" .. أعترف أن تلك المقالة هي بداية البداية في تصالحي مع قصيدة النثر ، أنا القادم من خلفية اجتماعية ، بل وثقافية ، لا تسمي شعراً الا كل موزون مقفى .. هذا التصالح الذي لن يتم الا بعد عدة سنوات نتيجة نقاشات معمقة مع الصديق الشاعر علي الرواحي .
(2)
لا أذكر على وجه الدقة متى قابلت سماء عيسى شخصيا للمرة الأولى .. على الأرجح كان ذلك في النادي الثقافي في منتصف تسعينيات القرن الماضي ، في احدى أمسيات المأسوف على شبابها أسرة كتاب القصة .. ما أذكره حقا أنني في احدى تلك اللقاءات الأولى بسماء عيسى كنتُ ممتعظاً داخلي من الصديق القاص ناصر المنجي الذي سمعتُه يخاطب الشاعر باسم "سماء" مجردا دون أن يسبقها بعبارة "أستاذ" ، هكذا ببساطة وكأنه يساويه في العمر والتجربة ، ثم سمعتُ بعد ذلك بسنوات مازن حبيب الأصغر بخمس سنوات من ناصر المنجي ينادي الأستاذ باسمه الأول كذلك بدون ألقاب .. قلتُ في نفسي انه التواضع الجم للأستاذ ، والحميمية التي يُشعرك بها تجاهه وكأنه صديق في نفس عمرك .. تأكدتُ من ذلك خلال سنتَيْ عملِنا سوياً في جمعية الكتاب ، وعلى وجه الخصوص خلال رحلتنا سويا الى دمشق في نوفمبر 2008 ، ومن بعدها خلال رحلتنا الى البريمي في يوليو 2009 ، حيث كان سماء "شبابياً" بالمعنى الدارج للكلمة ، ضاجا بالحيوية ، وعشق استكشاف المجهول .. ولكني – مع ذلك - لم أجرؤ على مخاطبته باسمه مجردا ، بدون سبقه بلقب "أستاذ" .
( 3 )
"تجربة وخلينا نخوضها".. هكذا قال لي سماء في مكالمة هاتفية ذات مساء في يناير من عام 2008 .. كنتُ في اليوم ذاته قد قابلتُ في مقهى الكون بمجمع العريمي الصديقين سعيد الهاشمي وناصر البدري، وعرضا عليَّ الدخول في قائمة الأخير في انتخابات جمعية الكتاب والأدباء المقررة بعد حوالي شهر من ذلك اللقاء .. كنتُ مترددا في قبول العرض بسبب ارتباطي برئاسة أسرة القصة بالنادي الثقافي آنذاك ، خاصة وأنها – أي الأسرة – كانت تبلي بلاءً حسنا في تلك الأيام بتشجيع من رئيس النادي الشاعر سيف الرمضاني ، وكنتُ أخشى ان أنا وافقتُ أن تتشتت جهودي بين الجمعية والأسرة فأصير كالمنبتّ الذي لا سماء أبقى ولا أرضاً قطع .. كانت نقطة التحول الفاصلة في موقفي خلال ذلك الحوار مع الهاشمي والبدري اخبارهما لي أن سماء عيسى وافق على الانضمام للقائمة .. طلبتُ منهما مهلة قصيرة للتفكير وأنا أقول في نفسي : "ان تأكد هذا الأمر فهذه دفعة معنوية كبيرة ".. في المساء اتصلتُ بسماء وأخبرته بعرض البدري والهاشمي فقال : "تجربة وخلينا نخوضها". ظل سماء عيسى دوماً لا يتردد في خوض التجارب الجديدة ، كتب عنه الشاعر زاهر الغافري مرة : " لم تترك فعالية وجدتَها أصيلة إلا وسعيتَ للمشاركة فيها ، ذلك لأنك لا تبحث سوى عن الجوهر ، عن ذلك الأصيل الضارب في الجذور ، الذي تراهن عليه طبقات عبر طبقات ، تراكماً عبر تراكم مهما كان ضئيلاً ، ليتشكل الوعي الثقافي ولتورق شجرة المعرفة عبر دأب صبور لكنه صادق " ، غير أن هذا الشغف بخوض التجارب لن يكون مفتوحاً على مصراعيه ، فقد ينسل سماء من التجربة كالشعرة من العجين ان شَعَر أنها غير خالصة تماماً لوجه الثقافة ، أو أنها ستضعه في مواجهة غير ضرورية مع أصدقاء أو مثقفين ، وله في ذلك أمثلة كثيرة لا داعي لذكرها الآن .
خضتُ التجربة اذن بتشجيع من سماء الذي أثبتت الأيام – بالنسبة لي على الأقل – أنه كان يسير بنا في الاتجاه الصحيح ، فبقدر ما هي تجربة تطوعية الهدف منها خدمة الآخرين ، بقدر ما هي مفيدة بالضرورة للمرء المضطلع بها ، اذْ تصقل شخصيته ، وتكسبه مهارات التعامل مع سويات مختلفة من البشر ، وقبل هذا وذاك تعرّفه على المشهد الثقافي عن قرب بكل ماله من مزايا وما عليه من عيوب .. وخلال تلك السنتين لا أذكر مشروعاً ثقافيا جميلاً للجمعية لم يكن لسماء يد فيه ، بدءاً من تأسيس جائزة أفضل الاصدارات العُمانية التي باتت تقليدا سنويا ، ومرورا بترسيخ عادة الاحتفال بالأيام العالمية للشعر والمسرح والفلسفة ، وتنظيمه ندوات ثقافية نوعية كندوة التصوف في الفكر العماني التي كانت بالتعاون مع النادي الثقافي ، وندوة أعلام التنوير العماني ، التي لم ترَ النور بعد، وليس انتهاء بجائزة الانجاز الثقافي البارز .. هذه الجائزة التي أراد سماء من خلالها أن يؤكد على أمر مهم جدا لا ينتبه له كثير من المثقفين ، وهو أن العمل الثقافي ليس فقط كتابة نص أدبي أو مقال أو بحث ، ثم نشره في كتاب ، أو القائه في أمسية ، رغم أهمية هذا الأمر .. ولكن أيضا المشاركة بفاعلية في الحراك المجتمعي ، وتوعية الناس ، وتنظيم الفعاليات الثقافية وادارة الفعل الثقافي المنظم من خلال عمل ميداني مضنٍ ، لا يقل أهمية عن عمل الكتابة .. لذا فان من حق هؤلاء الذين يحترقون كالشموع من أجل الآخرين دون انتظار مقابل أن يجدوا من يلتفت لعملهم ويقول لهم : "شكرا".. ولعمري ان كان من شخص استطاع أن يمازج بين عمل الكتابة والعمل الميداني بامتياز فهو سماء نفسه ، الذي لم يترك فرصة لعمل ثقافي من أجل الآخرين ولم يستثمرها .. ظل طوال الوقت الشجرة وارفة الظلال التي يستظل بها المثقفون على اختلاف أعمارهم وتوجهاتهم ، شعراء كانوا أو قاصين أو سينمائيين أو تشكيليين أو مسرحيين . كباراً كانوا أو في مقتبل العمر .. كل ذلك بمحبة كبيرة واخلاص ودون شبهة رياء أو ادعاء .. وأين من سماء بعض أولئك الذين وضعتهم ظروفهم في المسؤولية الثقافية فباتوا يهتمون بنسبة المشاريع لأنفسهم أكثر من اهتمامهم بالمشاريع ذاتها ! .
( 4 )
يقال انك اذا أردتَ التعرف على رجل فصاحبه في سفر ، وأستطيع القول بالفعل أنني اقتربت من سماء عيسى وتعرفتُ عليه أكثر خلال رحلتنا الى دمشق في نوفمبر 2008 للمشاركة في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الكتاب العرب من جهتي ، وفي المهرجان الشعري المصاحب له من جهته .. ترسخ في ذاكرتي من هذه الرحلة تنزهنا في دمشق وأسواقها الجميلة ( صحبة الصديقين مازن حبيب ومحمد قراطاس المشاركين في الأسبوع الثقافي العماني في سوريا الذي أ قيم في الفترة ذاتها ) .. هناك رأيتُ سماء عيسى خاشعاً مرتين : الأولى أمام قبر صلاح الدين الأيوبي ، والثانية في الجامع الأموي أمام قبر الحسين والسيدة زينب .. وهناك أيضا استمعتُ لسماء عيسى كما لم أستمع له من قبل ، الوقت الذي كنا نقضيه سويا أتاح لنا تجاذب أطراف كثيرة للحديث ، تحدثنا عن الشعر والشعراء ، عن جمعية الكتاب وأعضائها ، عن الثقافة والمثقفين ، عن الفعاليات الثقافية والأسر ، واذا بي أكتشف أن صمت سماء في عُمان هو صمت الحكيم الذي يعرف كل خبايا المشهد الثقافي العُماني ولكنه يؤثر الصمت وعدم الدخول في مشاحنات مع هذا أو ذاك .
بعد ذلك بأقل من عام ، وتحديدا في يوليو 2009 ، كنا سويا أيضا في الملتقى الأدبي الخامس عشر للشباب بالبريمي .. ومما أذكره في هذه الرحلة أننا كنا نتجول في أسواق العين أنا وسماء ويحيى المنذري في سيارة الأخير ، مررنا على أحد المولات واشترينا أشياء رسخت في الذاكرة منها دشاديش نوم .. وعرجنا على أحد المطاعم وتناولنا عشاءنا .. وفي طريق العودة ضلت سيارة يحيى المنذري سواء السبيل ، فاقترح سماء عيسى ايقاف تاكسي والطلب منه أن يمشي أمامنا .. وبالفعل أوقفنا التاكسي وركب فيه سماء ومشى أمامنا . وكالعادة ، كان سماء يسير بنا في الاتجاه الصحيح .
( 5 )
ختم امبرتو ايكو رائعته "اسم الوردة" بعبارة ذات مغزى: "كانت الوردة اسماً ، ونحن لا نمسك الا الأسماء" .. ولكن من ذا الذي يستطيع مسك اسم شاعر طابَ له – حسب قاسم حداد - أن يتقنَّعَ بالسماء، "كمن يريد أن يقول لنا أنه يرى إلينا.. إلى واقعنا من هناك، من الأعالي، دون أن يزعم ذلك أو يدعيه".. ثم لم يكتف بسماء واحدة – حسب صالح العامري هذه المرة - "فقد استمرأ السماوات فأطلق اسم سماء على ابنته"، ليدخل في سلسلة من المفارقات والطرائف التي لا تنتهي بسبب اسمه ، دافعاً ضريبة اختياره اسمه بملء ارادته ، على عكسنا نحن الذين لم نختر أسماءنا ولم يستشرنا أحد فيها .. وفي تصوري لو أن سماء عيسى قرر الكتابة عن المفارقات التي تعرض لها في حياته بسبب اسمه لأنتج نصاً ابداعيا مدهشا .. في سوريا سبقوا اسمه في جدول الشعراء المشاركين في الجلسات الشعرية بلقب "الشاعرة" ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أعدوا له بطاقة ليضعها في صدره مسبوقة أيضا بلقب "السيدة".. وآخر هذه المفارقات التي وقفتُ عليها شخصيا كانت في أبريل 2010 لدى مشاركته لي في حوار هاتفي للبرنامج الاذاعي المباشر "ترحال" عن بيت الشعر العُماني ( أحد المشاريع الثقافية الكثيرة التي يحلم سماء بتحقيقها ) ، حيث كنتُ قد سلمتُ مخرجة البرنامج منى المسلمية قائمة بأسماء ضيوف الحلقة يتم الاتصال بكل منهم خلال ساعتي الحلقة .. وعندما جاء دور سماء عيسى ووضعتْه في الانتظار تأهباً لبدء الحوار قالت تطمئنني : "الضيفة جاهزة ، لكن صوتها بهش شوية كنه صوت رجل ! ".
( 6 )
في شهادته عنه وصف الشاعر والقاص عادل الكلباني سماء عيسى بـ"الأب"، وهو بهذا كان يعبر عن مشاعر كثير من الكتاب الشباب الذين أخذ سماء بأيديهم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .. فها هو حمد الغيثي يكتب في أحد المواقع الالكترونية تعليقا على خبر أمسية "روتْ لي جدتي" ( التي نظمتها أسرة كتاب القصة في 21/8/2007 وقدم فيها سماء ورقة عن توثيق الحكاية الشعبية ) : "كنت أعلمُ أنه "حداثياً" يكتبُ قصيدة النثر. لذا ظننتُهُ مخلوقاً أرستقراطياً أو روبوتاً آلياً يتحركُ بثقلٍ غير طبيعي. هكذا كنتُ أظنه. إلاّ أنني قابلتُه مصادفةً في احدى الليالي المسقطية مع صديقٍ عزيزٍ، فخيّب الوالد سماء عيسى كُلّ التوقعات! .. سماء عيسى شخصية أثيريةٌ لطيفةٌ، تأنسُ الروح بها، ويتألقُ الجو بلمساته" .. اننا ازاء فتى لديه موقف مسبق على ما يبدو ممن يكتبون قصيدة النثر فيضعه حاجزاً بينه وبين الشاعر ، ولكن سماء بدماثته ولطافة تعامله استطاع أن يكسر هذا الحاجز .. يحاول سماء دائما أن ينظر الى النصف المملوء من الكأس ، وان أعجبه نص فانه لا يتأخر عن ابداء هذا الاعجاب .. واذا كان سماء قليل الكلام عن قصيدته وكيف يكتبها فان بامكاننا التلصص عليه شاعراً من خلال نصائحه الثمينة لعادل الكلباني التي جعلها جزءا مهما من شهادته عنه في صحيفة الزمن: " ان الشعر يلمح ولا يصرح، وان الشعر مختبئ في الأعماق البعيدة حيث الجرح الدفين، حيث نبع الشعر، والذي يعد صعب المنال نظرا لوعورة الطريق الشاق ، نكتب كثيرا لكن يبقى في الأخير قليلا مما كتبنا، فما نحن مقدمون عليه مجهول حقا، وسيظل دائما بحاجة الى الكشف حتى ونحن نلفظ أنفاسنا الأخيرة، علينا ادراك اننا لم نبدأ الكتابة بعد، اقرأ بهدوء وانظر كيف تشكلت الجملة الشعرية،كيف تركبت المفردات بعضها ببعض، قد لا نحتاج الى زائد الكلام وفائضه ، تجارب كهذه تختزن طويلا وعميقا في ذاكرة الشاعر وتؤتي عطاءها بعد سنين من النضج الفني، عندما تكتب الشعر لا تقدم الاجابة على الأسئلة لأن ذلك يلغي تطور الجملة الشعرية ويقفل أمامك الباب لتراكمها الخاص ، عليك أن تهتم بما يدعى التأثيث الداخلي للنص لا الكلام العام الخارجي ضعه متماسكا سواء قدم نفسه عبر مقاطع أو كتلة واحدة ، لا تذهب في كلام لا نهاية له يكون كل من يريد الكتابة مثله يكتب دون خلق علاقات بين الأشياء داخل النص ، النص يخلق علاقاته الخاصة والكلمات هي التي تحمل هذه العلاقات عبر الصور وعبر تماسكها الموسيقي لذلك تجدها مكتنزة بالايحاء والنظرة الجديدة للأشياء والالتفات الى ما لا يلتفت اليه الآخرون ، بعض الصور مكررة وبائسة ومستهلكة ، ربما قراءاتك الاولى لم تستطع التخلص منها حتى الآن فهي ما تشكل ذاكرتك وقاموسك الشعري، عليك أن تبدأ قراءة التجربة الشعرية العربية الحديثة من جديد ، شاعر موهوب تنقصك الجدية في التعامل مع اللغة، والارتكان الى السهولة في الكتابة يعيق قدرة خلق الصورة لديك، حاول أن تقرأ الكتب التي عالجت ثورة الشعر مثلما هو في كتاب – عبدالغفار مكاوي ( ثورة الشعر الحديث جزئين ) وكذلك الدراسات النقدية التي كتبت حول شعراء كبار لابد ذلك ان يضيء لك دربا في الطريق "
( 7 )
عرف بوب ديلان الشاعر بأنه أي شخص لا يقول عن نفسه إنه شاعر .. لعله كان يقصد أن القصيدة نفسها هي وحدها المعبرة عن أي شاعر ، أما تنظيراته وآراؤه في الشعر فليست الا ثرثرة فائضة عن الحاجة .. ولا أدري ان كان سماء عيسى ينطلق من تعريف ديلان هذا في رفضه الحوارات الصحفية أو الاذاعية عن تجربته الشعرية ، ولكن ما أعرفه حقاً أن سماء لم يرفض يوماً أي شهادة عن شاعر أو مثقف عُماني ، حتى انه سمى نفسه مرة "عيسى شهادات".. حسنا .. هذه هي الوصفة اذن : ان أردتَ لسماء عيسى أن يبوح بهواجسه وآرائه ، ويتحدث عن نفسه وعن تجربته بطلاقة وأريحية فلا تطلب اليه ذلك مباشرة ، بل اطلب منه الشهادة على مثقف عُماني آخر ، وحبذا لو كان هذا صديقا له أو مجايلا لتجربته .. سأدلل على ذلك من خلال تحليل سريع لخمس شهادات تشرفتُ بطلبها منه عن أصدقائه المبدعين والمثقفين : أربع منها للاذاعة ، والخامسة لجمعية الكتاب .. في هذه الشهادات الخمس ستتعرف على سماء عن قرب بنفس الدرجة التي تتعرف خلالها على المثقف المشهود له .. ذلك أن سماء سيختار نقاط تشابهه وتقاطعه هو مع هذا المبدع ، لكأنه يتحدث عن نفسه اذ يتحدث عن الآخر . في شهادته على أحمد الفلاحي لفتنا الى حرصه على إيقاد الشموع بدلاً من ذرف الدموع ولعن الظلام ، ويؤكد أن هذا المثقف الذي تتقدم تجربة الحياة لديه على تجربة الكتابة كان ومازال: " أباً يمد بكل ما يملك لكل مبدع يحاول التقدم خطوة مع اختلاف القادمين عن توجهه ، بل ومع تناقض بعضهم مع آرائه ، إلا أنه في الصمت كان يدرك أن كل شمعة تضيء تجر وراءها مائة شمعة أخرى ، ودوره التأسيسي التاريخي هذا في إضاءة الشمعة الأولى ثم السير قدما بالمرحلة إلى مرحلة أخرى وبقطرات المياه من المنحدرات الصخرية باحثاً لها عن ينابيعها الأولى"، وربما التفت سماء لهذا الأمر أكثر من غيره في شهادته على الفلاحي ، لأنه – أي سماء – أحد التطبيقات العملية القليلة عليه في حياتنا الثقافية .
أما في شهادته على عبدالله حبيب فيلتفت سماء عيسى أكثر ما يلتفت الى ثيمة الموت ، تلك الثيمة التي أجمعت شهادات جل أصدقائه وقارئيه أنه هو نفسه – أي سماء – خير تمثيل لها في الأدب العماني الحديث ، بل ان زاهر الغافري يؤكد أنها لا تختلف عن أي تجربة عربية مهمة.. في هذه الشهادة نقرأ حماسته في الحديث عن ثيمة الموت وكأنه يتحدث عن نفسه ، ولكن لا ينسى أن يحيلنا الى اسم عبدالله في الكلام : "لا حديث هنا عن التناص ولكن عن ثيمة الموت المتجذرة في الكتابة العربية الحديثة والمدرجة بقوة في تجارب تتجه إلى إضاءة مكنون بعيد وغائر في الذات العربية الجريحة حتماً عنه في إضفاء ما يحتفي به الإنسان على هذه الأرض، وكأنه لم يبقَ ما يُحتفى به إلا الموت، والكائنات هنا لدى عبدالله وأقرانه أيضاً ممن ذكرت ولم أذكر لضيق الوقت، تتخذ لموتها أسباباً تدفعها للموت وهي ترفع يديها احتجاجاً على عصر أذل كل القيم التي آمن بها عبدالله وآمنت بها شخوصه ورفعته وكتب لها ومن أجلها نصوص الحتف والفراق" ..
وفي شهادته عن زاهر الغافري يتحدث عن الحنين الى المكان الأول الذي لا ينقطع غياب الشاعر عنه وحنينه إليه ، مستشهدا بتجارب شعرية عُمانية رُسّخت بأكملها كحنين دائم إلى الجذور الأولى، أهمها تجارب أبي مسلم البهلاني ، وسليمان بن سعيد الكندي ، وعبدالله بن محمد الطائي، ومحمد بن جمعة الغيلاني وغيرهم ، " الشعر هنا تجربة غياب على الأرجح استمد الشاعر جذورها الأولى من الأرض ، من تجربته الخاصة في الحياة" ، ويشدد سماء على أن "الغياب إذاً احتفاء بالحياة ، ولكن للغياب جذوره أيضا ، جذور حزن غامض غريب يقفل أمام الشاعر أبواب ونوافذ الفرح ، لذلك ترتد التجربة إلى جذرها البعيد وكأنها هنا سلسلة أحزان تتراكم في صمت تارة وهدير تارة أخرى ، حتى تسير بك إلى الموت أو إلى ما هو أشبه بموت أبدي" ..
هذا الحضور القوي للغياب هو ما يلفته من جديد – في شهادة أخرى – لتجربة القاص سالم آل تويه : "الكتابة لديه ذكريات بعيدة تارة ، وقريبة تارة أخرى ، وهي لذلك تمتاز بالحميمية ، وسطوة مكان غابر وبعيد . شخصيات وشخوص تجاربه رحلوا ، سواء كان ذلك الرحيل في الموت أو في عوالم الفراق الأخرى" مؤكداً أن الغياب يتجلى في أكثر من نص لسالم آل تويّه ، الغياب الذي يحمل معه الألم والفقدان وفراق الأحبة وما تحمله الحياة دوماً من فجائع لا ننتظرها .
أما في شهادته على سعيد الهاشمي فيلتفت الى ثيمة الحرية "حرية الكلمة ، وحرية المرأة ، ثيمات أثيرة لديه" مرجعاً ذلك الى " الوعي الفردي المتقدم كتجربة أصيلة تنبع من الإيمان المطلق بالحرية والتنمية . بالإنسان ككائن وجد على الأرض ليكون ابناً لمستقبل قادم ، حيث لا قيود ولا أغلال ولا طوائف ولا ملل . انه الانتماء الى البشرية في جلالها وروحها" ، وترد في الشهادة عبارة تنطبق بامتياز على سماء – مثلما تنطبق على الهاشمي - : "لا بد إذن ممن يعطي حتى آخر قطرة من دمه" .
* العنوان مقطع من قصيدة "غيوم" للشاعر سماء عيسى

الخميس، 10 يونيو 2010

اذا حُرِمْتُمْ من الموسيقى فدعوا الكتابة




كانسان – قبل أن أكون كاتباً - تعني لي الموسيقى الرحابة وسعة الأفق والطلاقة ، الطيران في السماء والنظر بمحبة إلى الأرض ، النفاذ إلى عمق الكهوف المعتمة في النفس ، الحنين إلى شيء لا أعرفه وأعرف أنني لن أعرفه ، هي المطر إذ يحرضني على الشغب ، والذاكرة إذْ تعيدني إلى براءة الطفولة .. الموسيقى ابتسامة ، والابتسامة موسيقى، لأن كليهما لا يحتاج لمترجم .. وأظن شكسبير لم يكن مبالغاً حين كتب في "تاجر البندقية" أن "الآدمي الذي لا تنطوي جوانحه على الموسيقى، ولا يتأثر بتناغم الأصوات البديعة لا يصلح إلا للخيانة وتدبير المكائد والسرقة: بوادر نفسه معتمة كالليل، ومشاعره مظلمة ظلام أفظع الأشباح. لا يكوننّ مثل هذا جديرا بالثقة!»
أستمع عادة للموسيقى الكلاسيكية بأنواعها ، والموسيقى العربية القديمة ، والعود ، والقانون ، والجيتار ، والكمان .. استمع اليها في السيارة ، وفي البيت وفي مبنى الإذاعة ، حيث أعمل .. ومن دواعي سعادتي أن جزءاً من وظيفتي له تعالق مع الموسيقى من حيث البحث عن مقطوعات موسيقية ملائمة لنصوص شعرية أو قصصية أقرأها في الإذاعة ، أو لبرامج أخرى .. وبقدر ما هي مهمة مضنية بقدر ما هي مهمة ممتعة في الوقت ذاته . وأشكر التكنولوجيا التي أتاحت لنا أيضا إمكانية الاستماع للموسيقى أثناء المشي على الشاطئ .
و
للأسف الشديد فان القليل فقط من الموسيقى الجيدة ( أو لأقْلْ التي أفضلها ) متوفر في عُمان ، والباقي أحاول البحث عنه بطرق مختلفة : أما عن طريق تنزيله من النت ، أو شرائه من محلات موسيقى في دبي .. والبعض يهدينيه الأصدقاء العمانيون والعرب .. وبعض الموسيقى أطلبها من الأصدقاء داخل وخارج السلطنة .. وبعض الموسيقى أحصل عليها من الموسيقيين أنفسهم ، مثل هبة القواس ونصير شمة الذي أهداني في زيارته الأخيرة عمله الأخير "حرير" .
ثمة تعالق كبير بين الكتابة والموسيقى كفنّيْن ابداعيَيْن .. الفرق فقط أن الكتابة تتكئ على اللغة في حين تستطيع الموسيقى ما لا تستطيعه اللغة .. قرأتُ مرة للناقد صلاح فضل يخاطب الشعراء : "إذا حرمتم من الموسيقى فابحثوا عن كتابة أخرى غير الشعر". أما أنا فأعمم وأقول لجميع متعاطي الكتابة وليس فقط للشعراء : "إذا حرمتم من الموسيقى فدعوا الكتابة كلها ".. لا أعرف إن كان فضل يقصد بعبارته تلك الموسيقى العروضية ، ولكني شخصياً أرى أن الأمر أعمق من أوزان العروض .. فلكل فن إنساني موسيقاه التي لا يستقيم بدونها ، ذلك الإيقاع وتلك السلاسة اللذان بدونهما يشعر الكاتب أن كتابته تنقصها موسيقى .

الجمعة، 23 أبريل 2010

فراشة الردة


تماهى شوانج تسو يوما مع حلمه بالفراشة حتى تعذر عليه معرفة ما اذا كان هو ( تسو ) الذي يحلم بالفراشة ، أو أنه الفراشة التي تحلم بأنها (تسو).. فماذا لو أن هذا الحكيم الصيني الذي مات قبل أكثر من ألفي سنة قرر أن يغادر قبره هذه الأيام ليتنزه على شاطئ "الردة" ( بولاية صحم ) ، قريتي الوادعة التي كتبتُ ذات يوم عن هوائها النقي ، وسمائها الصافية ، وعصافيرها المزقزقة ، وأهلها البسطاء الذين ينتظمون في سلك الطيبة ، وما في قلوبهم يندلق على شفاههم دون صعوبة.. أتُراه - تسو - بعد أن يرى فراشتها العجيبة هذه سيواصل الحلم أنه فراشة ؟
بدأت الحكاية باتصال هاتفي من الصديق عبدالله السعيدي يسألني بفضول طفل يتهجى العالم : "بما أنك من الردة شو حكاية الفراشة ؟ " ، ولأنني لحظتَها لا علم لي بالحكاية فقد أجبت : "لا أعرف ، وان كان يسعدني أن يرتبط اسم قريتي بفراشة ! ".. وحين ألحف في السؤال وعدتُه أن أوافيه بالتفاصيل بعد الاستعانة بشقيق.. قال محمود الذي لم يكن في الردة ساعتها ولكن الحكاية طارت اليه على بعد مئات الكيلومترات من صحم : "نعم.. يقال انهم وجدوها على شاطئ الردة ، هناك صورة امرأة على جناحها ، وقد جاءت الشرطة وحملتها ".. لم أنتبه لفرط ذهولي هل قال ان الشرطة اعتقلت الفراشة أم المرأة !
فراشة الردة اذن تختلف عن فراشة تسو بأنها تحمل على جناحها امرأة ، أو هكذا على الأقل ما أُشيع ووزّع بالصور على الهواتف النقالة في استدعاء مذهل للأساطير والأحلام يعجز عنه حتى أدب أمريكا اللاتينية !.. أراني أخي حمدان الصورة في هاتفه مع خلفية صوتية ، لم تكن بالطع مقطوعة الفراشة لشومان ، بل نشيداً دينيا يسأل الله الرحمة يوم يعرق منا الجبين ، وييأس منا لطبيب ، ويبكي علينا الحبيب.. كانت الفراشة ساكنة وكأنها نائمة وتحلم.. كنت أرقب شاشة الجوال بخشوع ، ويجلجل داخلي هايكو ياباني " حلم الفراشة بالازهار / أود أن أتعرفه / لكنه صامت"
قرأتُ مرة أن في عُمان سبعين نوعاً من الفراشات ، ولكن لم يقل أحد من الباحثين شيئا عن "فراشة المرأة" هذه ॥ فلتُسجّل الفراشة الحادية والسبعون اذن باسم "ردتي" الحبيبة॥ صورة الفيديو تقترب شيئا فشيئا من جناح الفراشة لتتبدى بشكل جلي المرأة وكأنها تنظر اليك باستفزاز.. أيكون "الفوتو شوب" ؟!.. أم أن الفراشة من أنصار حقوق المرأة ؟!.. كلا.. السؤال ليس عن الفراشة بل المرأة.. ماذا يعني أن تختار امرأةٌ ما أن تطير على جناح فراشة ؟!.. هل يعني هذا تحولاً سوسيولوجياً لقرية ظلت وادعة بأهلها الصامتين الهادئين ؟!.. أتكون هذه رسالة احتجاج ذكية ابتكرها دعاة الجندر ؟! ، أم أنها دودة هنري ميلر التي ثملت بجلال وعظمة الحياة فصارت فراشة !
أسئلة كثيرة فجرتها في رأسي فراشة ساكنة على شاطئ الردة تحمل على جناحها امرأة.. أسئلة لم أجد لها اجابة حتى هذه اللحظة.

الأحد، 18 أبريل 2010

ماذا لو أن موسى ألقى عصاه في باريس ؟!



كانت عيني على المرشح العاشر ..
لا المصري فاروق حسني الذي أسقطتْه كتب إسرائيل التي لم يحرقها ، ولا البلغارية ايرينا بوكوفا التي لم يتوقع مواطنوها ولا حتى رئيسها فوزها بالمنصب ، ولا ايفون عبدالباقي اللبنانية الإكوادورية التي تعتز بدعم باراك أوباما زميلها السابق في جامعة هارفارد ، ولا النمساوية بينيتا فيريرو- فالدنر التي تتفاخر بدورها في إطلاق سراح الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات الخمس، الذين تسببوا بمرض حوالي 400 طفل ليبي ، ولا الليتوانية إنا مارشيوليونيته التي انتخبت لرئاسة لجنة التراث العالمي بعد عام واحد فقط من عملها كمندوبة لبلادها لدى اليونسكو ، ولا البنيني نوريني سيربوس الذي ربما ما كان ليترشح أصلاً لولا علاقة بلاده ( بنين ) القوية مع فرنسا ، ولا الروسي الكسندر فلاديميروفيش ياكوفينكو الذي قدم ترشيحه قبل أيام قليلة من إغلاق الترشيح ، وكأنه طالب مجدّ يستنفد وقته كاملا في الامتحان ، ولا التنزاني سوسبيتر موهونجو مؤسس المجلس الدولي للعلوم الذي وصف بأنه جيولوجي جاهل بالسياسة ، ولا الكمبودي محمد بيجاوي رئيس محكمة العدل الدولية السابق الذي رفض بلده الأصلي (الجزائر) الوقوف خلفه مفضلاً عليه فاروق حسني .
كانوا إذاً تسعة ، وعاشرهم لم يرشحه أحد غيري .. رغم أنني واثق أنه لو قدم أوراق ترشيحه هناك فانه قادر على الصمود حتى نهاية السباق ، ومن يدري ، فربما كنا رأينا عمانياً للمرة الأولى مديراً عاماً لليونسكو .. إنني أتحدث هنا عن سباق الترشيح المحموم لرئاسة منظمة اليونسكو الذي انتهى بفوز البلغارية ايرينا بوكوفا في الثاني والعشرين من سبتمبر الماضي .. ومرشحي المقصود هو موسى بن جعفر بن حسن المستشار الحالي بالوفد الدائم للسلطنة لدى اليونسكو ، ومندوب السلطنة السابق لهذه المنظمة لما يقرب من ربع قرن ، والذي وقفتُ عن كثب على دأبه ونشاطه في المنظمة خلال تشرفي بالمشاركة ممثلاً لإذاعة سلطنة عُمان في الأيام الثقافية العمانية في اليونسكو في يونيو 2006 .
وبادئ ذي بدء ينبغي علي التوضيح لمن يهمه الأمر – ولمن لا يهمه كذلك - أنني لا أنطلق في ترشيحي لموسى جعفر وإيماني به من كونه عمانياً ( رغم شديد افتخاري بهذا الأمر ) ، بل من كونه الرجل المناسب للمكان المناسب .. أليس هو الرجل الذي انتخبه المؤتمر العام لليونسكو عام 2005 رئيساً لدورته الثالثة والثلاثين ولمدة سنتين ؟! .. أليس هو الحاصل على الدكتوراة في القانون من جامعة السوربون بباريس ؟! .. ألم يظل يشغل منصب المندوب الدائم للسلطنة لدى اليونسكو منذ عام 1984 وحتى مطلع هذا العام ؟! . ألا يمتلك تجربة ثرية مع الهيئات التنفيذية لليونسكو عززتها مشاركاته المتوالية في المؤتمرات العامة للمنظمة منذ عام 1978؟! . ألم يكن رئيسا للمجموعة العربية في اليونسكو لثمانية عشر عاما (1986 - 2004) ؟ . ألم يترأس اللجنة الاستشارية لخطة تنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة لليونسكو منذ عام 2002 ؟! .. انجازاتٌ يصعب حصرها في مقالة محدودة الكلمات كهذه ، ولكنها – الانجازات لا الكلمات - كافية لتعزيز فرص الرجل ، خاصة إذا ما أضفنا إليها الميزة الأخرى ، وهي انتماؤه لدولة تتميز بعلاقاتها الودية الطيبة مع الجميع ، نتيجة لسياسة حكيمة اختطها جلالة السلطان المعظم - حفظه الله - قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين .. وهي العلاقات التي رأينا كيف تسنى لها دفع مرشح وإسقاط آخر .
لهذا كله أظن أنه يحق لي – حتى وان كان مجرد حلم يقظة - أن أحلم بموسى يُلقي عصاه في باريس .

الأربعاء، 14 أبريل 2010

أن تمشي وراء حسن ربيع




عن الثقافة والرياضة وأشياء أخرى



الزمان : السادسة والنصف مساء 29 يناير 2009
المكان : مطار مسقط الدولي


حطت الرحلة 644 بحمد الله وتوفيقه في مطار مسقط الدولي، بعد تأخير في الإقلاع من مطار الكويت دام ستين دقيقة فقط لا غير، هي بالتأكيد لا تساوي شيئاً في زمان الله الشاسع، خاصةً إذا علمنا أن هذه عادةٌ أَلِفَها هذا "الناقل الوطني" العتيد استطاع من خلالها تربية زبائنه على الصبر وتحمّل الانتظارات!. طلب قائد الطائرة من ركابها التريّث إلى أن يهبط لاعبو منتخبنا الوطني أولاً.. قلتُ في نفسي: لا ضير يا صديقي، فبعد انتصارهم بالأمس فإنهم يستحقون هذه "الواسطة" غير الضارة، خصوصاً أن معظم الركاب الآخرين ما طاروا إلى الكويت إلا لتشجيعهم ومؤازرتهم. وأقول "معظم" وليس "كل" لأني أعرف اثنين من الكائنات البشرية على الأقل طارا في الرحلة نفسها لسبب آخر. قلت لبشرى: "ذهبنا وعدنا في نفس الطائرة المخصصة لتشجيع المنتخب"، ردت: "لعلهم سيلاحظون أننا لم نذهب للملعب"!. وبينما أنا أستذكر الصحفيين الذين رافقونا في الرحلة جيئة وذهاباً داهمني شعور فتّاك بالنقص فقلتُ لنفسي وأنا أضع رجلاً على رجل وأرفع رأسي للأعلى: "كانوا في مهمة رياضية، ونحن في مهمة ثقافية.. وكلنا نبض واحد ".. صدفة الضبط القدري وحدها جعلتْ أمسيتنا السردية أنا وبشرى خلفان في نفس توقيت المباراة، وعلى مبعدة أمتار فقط من أستاد السلام والصداقة بنادي كاظمة الذي احتضن المباراة، لدرجة أن زائري موقع رابطة الأدباء اضطروا لإيقاف سياراتهم بعيدًا. الحسنة الوحيدة لهذا الأمر أنه يتيح لنا أن نتحجج فيما بعد بالمباراة لقلة الحضور، وليس لأننا ممن "أدركتهم حرفة الأدب". قلتُ بعد ذلك لمن أبدى اندهاشه من عدم حضورنا المباراة رغم وجودنا في الكويت: " كنا نشجع منتخبنا بطريقتنا: نستدرج الجمهور الكويتي بعيداً عن الملعب ". سألني الكاتب الكويتي فهد الهندال بعد الأمسية: شرايك في الجمهور؟.. قلتُ: قليل.. ثم انتبهتُ إلى أن إجابةً كهذه تنقصها بعض السعرات الذوقية فتداركتُ: "ولكنه نوعي"، وبالفعل لا يمكن أن نصف جمهوراً من بين أفراده إسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وفوزية شويش السالم وحمد الحمد واستبرق أحمد إلا أنه نوعي.

في مطار الكويت، كنا جلوساً في قاعّة الانتظار رقم 3، نفعل ما يفعل المنتظرون والعاطلون عن السفر: نربي النظر!। كنتُ أشاهد "النجوم" على الطبيعة للمرة الأولى. هذا فوزي بشير وهذا حسن مظفر، وهذا "كانو"، وهؤلاء "ما زالوا" ينتظرون تعطّف "الناقل الوطني" بإعلان الموعد الجديد للإقلاع. كنتُ أحملق فيهم وأنا أفكر أنهم تجسيد حي لعبارة صن تسو في "فن الحرب": "المحاربون المنتصرون ينتصرون أولاً، ثم بعد ذلك يخوضون غمار المعركة". كانوا على الأرجح يدركون أنهم "نجوم "، لذا فقد بدوا متحفظين بعض الشيء. حركاتهم محسوبة بدقة، ويوزعون ابتساماتهم بالتقسيط المريح॥ من ذلك النوع من الابتسامات الذي تحدثتْ عنه بشرى في "غبارها"، حين يخرج المرء من البيت فيتذكر أنه نسي حمْل ابتسامته معه فيضطر لإخراج ابتسامة جاهزة من حقيبته، ابتسامة تؤدي الغرض، " وتمنح المرء شعوراً مباغتاً بالسعادة، عيبها الوحيد، فقط، أنها لا تدوم طويلاً ". قررتُ أن أصور مع عماد الحوسني وأُرِي الصورةَ بعد ذلك لأخي الأصغر محمد ليعرف أن النجوم لا تبزغ إلا لتراني!. سمعتُ جارتنا مرةً تتباهى أن بيت صهرها لا يبعد كثيراً عن بيت عماد في الخابورة. قلتُ له في محاولة لخلق حوار – ونحن واقفان في القاعة تأهباً لالتقاط الصورة - : "تراني من صحم .. يعني جيران ".. فردّ بابتسامةٍ مُجامِلة: "صحيح؟.. ما شاء الله ". وما هي إلا ثوانٍ حتى التُقِطَتْ لنا الصورةُ التاريخية التي توثّق لحظة التآخي الخلاق بين الثقافة والرياضة!.

في ذلك اليوم لم أكن قرأتُ بعدُ السؤالَ المرعبَ الذي طرحه سالم العمري في "شرفات": أيهما أكثر تأثيراً وإلهاماً في عيون الشباب العُماني: علي الحبسي أم سيف الرحبي؟॥ لم يُخْفِ العمري ( وهو – للمفارقة – مقدم برامج ثقافية حالي في التليفزيون، وسابق في الإذاعة ) لم يخفِ انحيازه الواضح كشاب للرياضة ضد الثقافة، ليس فقط في رده السريع على نفسه بدون أدنى تردد، ودون أن يرمش له جفن، أو تَطْرف له عين، أو ترتجف له شَفة: "بالتأكيد علي الحبسي"، بل أيضًا لأنه جعل اسم هذا الأخير سابقاً للرحبي في ديباجة السؤال، رغم أن منطق السن والتجربة ( بل وحتى الحروف الأبجدية ) يقضي بتقدم صاحب "المدية الواحدة التي لا تكفي لذبح عصفور" في السؤال مادام لن يستطيع – وا أسفاه ! - أن يتقدم في الجواب.. يا للرعب!.. لكأنك تتمشى في أمان الله في حديقة غنّاء فيفاجئك أحد القتلة المأجورين: "اكتشفنا أن أمك وأباك ما زالا على قيد الحياة، في حين أن كثيرين في مثل سنك ووضعك يعيشون يتماء الأب والأم، وهذا ليس عدلاً। عليك الآن أن تختار بسرعة: نقتل أمك ؟ أم أباك ؟ ". فترتبك وتتلعثم ويتساقط العرق من جبهتك بغزارة، بمَ تجيب!.. صحيح أن سيف الرحبي لم يحترف في بولتون ولكني أكاد أقسم أنه قادر على صد ضربة جزاء بسهولة.. أما علي الحبسي فيمكن اعتباره بامتياز "رجلا من الربع الخالي" وجد نفسه أكثر في "الربع الممتلئ"، وقد أذهب أبعد من ذلك لأقول إنه هو عينه "الجندي الذي رأى الطائر في نومه "!.

كان حسن ربيع هو من سجل هدف الفوز في مباراة الأمس، وقبلها كان هو هداف كأس الخليج، وكان طبيعياً أن يكون الأكثر طلباً للتصوير في قاعة المطار.. كنتُ أرقبه وهو يبتسم للصورة وأفكر: سبحان الرزاق المعطي. وتذكرتُ الشقة التي صورتْه كل الفضائيات وهو يستلمها بُعيد المباراة النهائية لكأس الخليج وسبحتُ في حلم يقظة طويييل:
أبو علي في شقته الفاخرة في "غرفة تخص المرء وحده" – على رأي فرجينيا وولف - يستيقظ صباحاً على "مسج" من الشاعر إسحاق الخنجري। يبتسم وهو يقول في نفسه : "ما أجمل أن تبدأ يومك بشعر جميل". يضع أبو علي الهاتف بجانب السرير ويتوجه إلى الحمام، وهناك يتناهى إلى سمعه نباح كلب في شقة الجيران فيتشاءم مستذكراً عبارة كاواباتا في إحدى رواياته: "إذا نبحك كلب في الصباح فتلك إشارة على أن يومك سيكون سيئا". بعد خمس دقائق يتذكر أبو علي أن هاتفه بحاجة إلى تعبئة، فيعود أدراجه إليه ليضعه في مكبس التعبئة ريثما ينتهي من طقوسه الصباحية المعتادة. لا يجد الهاتف!. يخرج إلى جاره سلطان فيطلب منه الاتصال به فيكتشف أن هاتفه صار مغلقًا!. يقول له جاره: "أشم رائحة لص، تأكد من محفظتك". يمسك بالمحفظة فيفاجأ بأن اللص الذكي الفطِن السميدع الجريء الحاذق الماهر المتمرس انتزع نقوده منها كما تُنْتَزع الشَعرة من الحساء، ولكنه ليس لصاً شريراً بدليل أنه ترك له بطاقاته الشخصية لم يمسسها سوء. يتصل سلطان بالشرطة، ليأتي شرطيان ويوبخاه على ترك المحفظة في غرفته في مكان بارز، مؤكّدَيْن حتى قبل أن يجف حبر الورقة التي يسجلان فيها تفاصيل السرقة أن القضية ستقيّد "سرقة بسبب الإهمال"!. ولا أدري كيف انتقل المشهد بهذه البساطة من الشقة الفاخرة إلى حارتنا القديمة، حيث وجدتُني لاعب كرة في بداياته يلعب لفريق الحارة، وإذا بمدرب أحد الأندية العالمية الكبيرة كان ماراً بالصدفة في حارتنا لشراء بعض الزلابيا، وإذا به يشاهدني ألعب. قال لي زميل في الملعب: " انتبه ॥ هذا مورينيو أوكامبو مدرب ريال مدريد". فطفقتُ أكثف من مراوغاتي لألفت انتباهه، حتى لقد كسرني مدافع الفريق الخصم فسقطتُ أرضًا وأنا أتلوّى من الألم، ورأيتُ المدرب يوليني ظهره متأهباً للمغادرة، فأُسقِط في يدي ووجدتُني أصرخ بكلام لا أعرف كيف خرج من فمي، ولكن يبدو أنني تعلمتُه في المدرسة: "الله الله في أمري: اجبرني فاني مكسور، اسقِني فاني صََدٍ، أغثني فاني ملهوف"، فمضى ولم يلتفتْ بينما يتعالى صراخي: "إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟، قد والله بح الحلق وتغيّر الخلق". وظللتُ على هذه الحالة إلى أن أيقظني صوتُ أحدهم وهو يقول بفرح: الطيارة ستطير بعد أربعين دقيقة.

بينما كانت الطائرة تكنس غبار السماء خرج صوت من كابينة القيادة يطلب من المسافرين الاستفادة من ميزة " المسافر السندباد " التي تُمنَحُ لمن يسافر كثيراً مع هذا الناقل الجوي। كدتُ أن أصرخ من الغيظ: " اخرس॥ السندباد كان يحترم مواعيده " لكنني لعنتُ إبليس!. بالتأكيد لن أستطيع أن أشاهد الدنيا من نافذة الطيارة لأنني كنتُ في المقعد الأوسط.. عن يساري بشرى، وعن يميني بجوار النافذة رجل خمسيني أسمر أبيض اللحية، يبدو من هيئته أنه مشجع عتيق للمنتخب. قرأتُ في الصحيفة التي أمامي أن أحد لاعبينا أصيب في الملعب، فقررتُ أن يكون هذا مدخلي لجاري الودود: "كيف حال الشيبة"؟.. رد: "الحمد لله .. طلع من المستشفى". التفتُّ لأم ناصر لأخبرها أن مبارك العامري خرج من المستشفى أيضًا، وسيسافر قريباً إلى تايلند ليكمل العلاج، ولكنني وجدتُها منهمكة في قراءة رواية "الوارفة" لأميمة الخميس، والتي أهدتْها إياها باسمة العنزي. إنْ أنسَ كل ما سردتْه لنا باسمة خلال هذه الرحلة لا أنسى حديثها عن قصة "موت أنيق" للقاص السعودي الذي كان مقيماً في الكويت خلف الحربي، عن نحات مبدع وهو في الطائرة عائداً إلى أرض الوطن، "يفتح المجلة على صورته وهو يتسلم جائزة المعهد الأوربي للفن الحديث التي كان فاز بها الأسبوع الماضي وشرع يقرأ الخبر للمرة العاشرة، ممنيًا نفسه باستقبال حافل يليق بإنجازه"، ليجد فعلاً جمهوراً كبيرًا بانتظاره، ولكن ليس لاستقباله، بل لاستقبال نجم "ستار أكاديمي"!.

ربما لأنه حرمني من مكاني المفضل على النافذة قررتُ أن أستفز الرجل الخمسيني، ففتحتُ فمي كأي انتحاري لا يخشى العواقب: "يقولون ضربة الجزاء على منتخبنا صحيحة"। رد بانفعال: "وين صحيحة الله يهديك! . الحكم حاول يجاملهم، لكن هويدي بيّض وجوهنا". وصَمَتَ قليلاً ثم أردف: "ربك ما يضرب بعصا॥ منتخبه هذا الحكم هزموه على أرضه في نفس الليلة!". ورأيتُ رجلاً يلتفتُ من مقعده إلى الوراء، أذكر أنني رأيتُه في فعاليات ثقافية وما توقعتُ أن أراه مشجعاً للمنتخب الوطني. سألتُ جاري: "كأني أعرفه هذا الرجل". فأوضح أنه فلان الفلاني من أعضاء مجلس إدارة اتحاد الكرة، وأنه تلقى أمس أثناء المباراة ضربة في ظهره بقنينة ماء من قبل الجمهور. تذكّرتُ الرجل بمجرد ذكر اسمه، ووجدتني أقول لنفسي وأنا أنظر إليه: " لو مع اللوحات بقيتَ ما قذفوك ولا ضربوك "!.

قرأتُ في بعض التحليلات الرياضية أن هؤلاء هم المنتخب الذهبي لعُمان. وأن السلطنة لتحافظ على هذا التفوّق بحاجة إلى تشكيل منتخب رديف من شأنه أن يحافظ على منجزات المنتخب الأصلي. وشخصياً لا أعرف إن كان هذا المنتخب قد شُكِّل أم ليس بعد. ولكن إذا لم يكن "لوروا" قد شكله فما الضير لو كان هذا المنتخب الرديف من المثقفين: سيف الرحبي رأس حربة مثلاً، وأحمد الفلاحي حارس مرمى، وسماء عيسى "ليبرو"، وخالد عثمان "مسّاك"، ومحمد الرحبي ظهير مهاجم ليتسنى له - كما تمنى في أحد مقالاته - أن يرفع دشداشته بعد أن يسجل الهدف ليكشف عن عبارة "تضامناً مع غزة" المكتوبة في بطنه. ولا مانع أن يحترف بعض لاعبي هذا المنتخب في الخارج: على المعمري في الأهلي المصري، وناصر البدري في مانشيستر الإنجليزي ( بطلب شخصي من السير اليكس فيرجسون ! )، ومحمد اليحيائي في نادي جالاكسي الأمريكي بديلاً لبيكهام. وهلمّ جرياً في الملعب.. ألن يكون هذا بحق منتخب الأحلام؟!. الانتصارات الكبيرة بدأتْ بحلم، ولا شيء يمكن أن يقف في وجه الإرادة الحقيقية. و"عندما يناضل المرء من أجل كل ما تحت السماء فعليه أن يناله كاملاً"، هكذا تحدث صن تسو أيضًا. قبل عشر سنوات كان حصولنا على كأس الخليج ليس أكثر من حلم، أما اليوم فقد أصبح الحلم واقعاً معيشاً، واحتفل به الجميع، ليس فقط المهتمون بالرياضة، بل كل عُمان، مواطنوها ووافدوها. في ليلة الانتصار، وبسبب الاحتفالات التي عمّت السلطنة بأكملها
احتجتُ لثلاث ساعات لأنتقل من مبنى الإذاعة إلى البيت في حين كان لا يستغرق الطريق في الأحوال العادية أكثر من خمس وعشرين دقيقة। ثمة من تذكّر بمرح حكاية العربي الذي حزم وسطه وأخذ يرقص ابتهاجًا. احتفل بالانتصار حتى مَنْ لم نتوقعه. وقد روى أحد الظرفاء أنه شاهد بعض الكتّاب والمثقفين الذين لم يكونوا يوماً متابعين أو مشجعين لمباريات الكرة، شاهدهم في تلك الليلة يدخلون حانة جون بيري بُعَيْد المباراة وهم في حالة انتشاء عارم ويهتفون بالنادل: "كلنا نبيذ واحد"!.

في صالة المطار وبينما أنا أنتظر حقائبي اتصلتُ بأخي حمد لأخبره أنني وصلتُ فكان رده: " أنا بعدني في بركا، ربع ساعة وأكون عندك"। وما هي إلا دقائق حتى اكتمل عقد حقائبي الثلاث ووضعتُها في العربة। أي تواطؤ قدري هذا الذي جعل حسن ربيع يمشي أمامي ونحن متوجهان إلى صالة استقبال القادمين!। كان يمشي بطوله الفارع متأبطاً حقيبة رياضية صغيرة، وبدوتُ أنا خلفه بعربتي وكأنني حامل حقائبه!। وما إن ظهرنا للجمهور، ( بتعبير أصدق وأكثر دقّة: ما إن ظهر حسن وأنا وراءه ) حتى توالت الترحيبات: "شرفتنا"، "يا مرحبتين"، "مبروكين"، "بياض الوجه"، "لو سمحت صورة"।
تركتُه يبتسم للهواتف النقالة ومضيتُ مُنكّساً رأسي جارّاً عربتي باستحياء.

الأربعاء، 7 أبريل 2010

يوميات بودلير

أن تقرأ يوميات بودلير يعني أن ترى الحياة بعين شاعر حقيقي ، يكتب كما يعيش ويعيش كما يكتب .. أن تُستلب بالتأملات والرؤى البكر التي قُدر لها أن تصلنا (على الأرجح) في صورة الدفق الأول ، وذلك لأنها نُشرت بعد وفاة كاتبها بعشرين عاما ، ما يعني أنه لم يتح له أن يشذبها أو يجري عليها عمليات تجميل .. يتبدى لنا بودلير في هذه اليوميات ( وكما يصفه مترجمها إلى العربية الشاعر التونسي آدم فتحي) كأوضح ما تكون الرؤية : يفكر ويشك ، يحسم ويتراجع ، ينحاز ويتخلى ، يهجم ويدافع ، يمدح ويهجو ، يقارع الحجة بالحجة ، ويتخذ لنفسه موقعا من كل ما حفل به عصره (بودلير عاش في الفترة ما بين عامي 1821 و 1867) ، هذا العصر الذي نضح بمتغيرات عدة ، وعج بأسماء لامعة في الفكر والفلسفة والعلوم والأدب ( هيجل ، كانط ، كارل ماركس ، فكتور هوجو ، فلوبير ، أوغست كونت ، داروين ، شوبنهاور .. الخ ) ولعل هذا ما يصنع لهذه اليوميات أهميتها التاريخية .. قد نشاطر بودلير اعجابه بـ (ادجار ألان بو) أو (أوفيد) أو (فاجنر) ، وقد لا نشاطره سخريته من فولتير وموليير وجورج صاند ، لكننا نسجل له أنه مارس حريته في قول ما يريد (بل وفعْل ما يشاء) ومضى ، هو الذي يتحدث في يومياته عن أن الروح تمر بحالات تكاد تكون فوق طبيعية ، يتجلى أثناءها عمق الحياة بأكمله في أي مشهد يتاح للعين مهما كان عاديا .. ان النظر الى عمق الحياة هي مهمة الشاعر الحقيقي .. لكن الشاعر لا بد أن يكون إنسانا قبل كل شيء ، بما يحمله هذا الانسان بداخله من تناقضات صارخة : الحب والكراهية ، الصدق والكذب ، الخوف والاقدام ، النبل والخسة ، الغموض والوضوح .. إن المواءمة بين الشرط الشعري والشرط الانساني هي التي تصنع الشاعر الحقيقي أو ما يسميه بودلير (الداندي) نسبة الى (الدانديزم) الذي يعرفه بودلير بأنه المعادلة الخيميائية التي بفضلها يلتحم الشاعر بالانسان لانجاب الكائن الأسمى : الداندي .. هذا الداندي عليه ، حسب بودلير ، أن يعيش ويموت أمام مرآة ، وأن يكون عظيما في نظر نفسه قبل كل شيء اذ أن "الأمم لا تنجب العظماء الا مرغمة .. اذن لن يكون الرجل عظيما الا اذا انتصر على أمته جمعاء"، كما أن الداندي عاشق للفن والجمال ، ولكن ليس الجمال النمطي المكرس والقار .. الجميل عند بودلير هو شيء ما متأجج وحزين ، شيء ما يفسح المجال للتخمين .. ويجعل من شروطه الغموض والندم ، ويضيف اليهما شرط التعاسة .. وهو بذلك لا يزعم أن الفرح لا يجتمع مع الجمال ، لكنه يعتقد أن الفرح حلية من أكثر حلي الجمال سوقية ، بينما الكآبة هي اذا صح القول قرينة الجمال الرفيعة الى الحد الذي لا يتصور معه بودلير نموذجا للجمال لا تسكنه التعاسة
* * *

شذرات من يوميات بودلير


عندما يأوي المرء الى فراشه ، تتمثل الرغبة الدفينة لجميع أصدقائه تقريبا في أن يروه يموت .. بعضهم للوقوف على أن صحته كانت أسوأ من صحتهم .. والآخرون يخامرهم أمل ما ، في معاينة الاحتضار

* * *
ما من فتنة للحياة حقيقية غير فتنة اللعب .. ولكن ماذا لو كنا غير مبالين بأن نكسب أو نخسر ؟.
* * *

فيما يختص بالنوم ، تلك المغامرة الكئيبة لكل ليلة ، كان يمكن القول إن الناس ينامون يوميا بجرأة غير معقولة ، لولا أننا نعرف أنها جرأة الجاهل بالخطر .
* * *
يقال إن عمري ثلاثون سنة .. ولكن اذا عشتُ ثلاث دقائق في كل دقيقة ، ألا أكون في التسعين ؟
* * *
الإنسان يحب الإنسان ، إلى حد أنه لا يهجر المدينة الا ليبحث عن الحشد مرة أخرى ، أي ليعيد صنع المدينة في الريف
* * *
يبدو لي الانسان المتعلق بالمتعة ، أي بالحاضر ، في هيئة رجل متدحرج من عل ، أراد أن يتشبث بشجيرات ، فاقتلعها وجرفها معه في سقوطه

الخميس، 1 أبريل 2010

نفق ساباتو

''الروايات الكبرى هي التي تغير الكاتب حين يكتبها، والقارئ حين يقرأها''.. لأول وهلة قد يستغرب المرء حين يعرف أن قائل هذه العبارة عالم فيزياء.. ولكن الدهشة ستتبدد حين نعرف أن ذلك العالِم قرر هجر الفيزياء واتجه إلى كتابة الروايات.. ''النفق'' واحدة من الروايات التي يمكن الزعم أنها قادرة على تغيير القارئ بعد أن يقرأها .. ومن باب أولى فهي غيّرتْ كاتبها ارنستو ساباتو بعد كتابتها إذ حولتْه من العالِم الحاصل على الدكتوراه في الرياضيات والفيزياء والعامل في مختبرات ''كوري'' بباريس شاهداً على تحطيم ذرة اليورانيوم وما سينجم عن ذلك فيما بعد من أخطار تهدد البشرية وتنذر بجحيم كوني، حولته إلى روائي فذ عُدَّ واحداً من أهم روائيي القرن العشرين، برغم قلة إنتاجه الروائي الذي لم يتعدَّ ثلاث روايات، هي ''النفق'' عام 1948 ''صدرتْ عن الدار الوطنية الجديدة عام 2004 بترجمة عبدالسلام عقيل''، و''أبطال وقبور'' عام ،1961 و''أبدون'' عام ..1967 ومع هذا، فإن ساباتو يؤكد في الحوار الذي أجرتْه معه الروائية التشيلية ايزابيل الليندي ونُشِر في مجلة ''باولا'' أنه ليس كاتباً محترفاً، وأنه يكره الأدب والأدباء، مضيفاً: ''كوني كاتباً أمر لا يعجبني، كان بودي أن أكون عالم آثار أو عالم لغة، أو أن تكون لي ورشة ميكانيك صغيرة في حي غير معروف''.
كان بطل أولى رواياته ''النفق'' رجل مجنون انطوائي مكتئب على الدوام، ويردد: ''كون العالم فظيعاً، فهذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان''.. إنه رسام يدعى خوان بابلو كاستيل لم يتمكن من التواصل مع أحد، ولا حتى مع المرأة الوحيدة التي يبدو أنها فهمتْه من خلال ما يرسم، والتي سيقتلها في النهاية بدافع الغيرة.. يردد كاستيل في الرواية: ''كان هناك في جميع الأحوال، نفق واحد فقط، مظلم وموحش: نفقي أنا''، لكننا سنكتشف نحن القراء أنه ''نفقنا'' نحن أيضاً الذي سندخله طائعين، ولن نكون نحن حين نخرج منه ''إذا قُيّض لنا أن نخرج''.
يقول ساباتو إن من يريد أن يختار الكتابة فعليه أن يكتب عندما يصل به الأمر إلى حد لا يطاق، عندما يُدرك أنه قد يصاب بالجنون إن لم يكتبْ..
وعلاوة على أنه كاتب كبير وفنان، فإن المزية الأهم لساباتو - كما يقول الشاعر العراقي باسم المرعبي في دراسة له بمجلة نزوى - هي أنه قدم للأدب ما لا يمكن أن يقدمه غيره بسبب من خلفيته العلمية الصرف، ما ساعده على أن يضفي تفكيراً منطقياً علمياً على مجمل أفكاره وتصوراته عن الكتابة والفن عموماً.. ونستطيع القول - يضيف المرعبي - إن الكتابة قد حظيتْ برصيد كبير بانتقال ساباتو إليها، وعبر فهمه تصيب الرواية مكانة غير معهودة، فهو يعتقد أنها تتفوق على البحث والفلسفة؛ لأن بإمكانها أن تجيب على التساؤلات. وما ذلك إلا لأن الرواية هجين يقع وسط الطريق بين الأفكار والعواطف''.
''النفق'' رواية تدفعك للتفكير والتأمل، ولا يمكن أن تظل أنتَ أنتَ بعد فراغك من قراءتها.

الثلاثاء، 30 مارس 2010

امبااااع


امبااااع

     ثَغَتْ الشاة .
     سقطتْ دمعة من عين عبدالفتاح المنغلق على حافة السكين المشحوذة بعناية .
     قبل عشرين سنة كان عبدالفتاح يحب العيد ، وخاصة حين يطلق مفرقعاته في المصلى بانتظار انتهاء الخطبة .
     قبل ثلاث سنوات فقط بات المنغلق يتشاءم من العيد .. تحديدا منذ قال له أبوه :
-        فضحتنا قدام الخلق
قالها أبوه في ثالث أيام العيد ، عندما كان أهل القرية مجتمعين لتناول وجبة الشواء في سبلة[1] الشيخ سعدون بن خويطر .. قال الشيخ لأبي عبدالفتاح : " ما شا الله شواكم لذيذ ، باين عليه التيس اللي ذبحه عبدالفتاح كان كبير" .. قال  الأب : أنا اللي ذبحت التيس .
     لم يفهم الأب مغزى تعليق الشيخ إلا حين سمع رده على طلبه الذي طلبه قبل أسبوع من العيد .. أثناء شرب الشاي ، وعلى مرأى ومسمع كل من كان في المجلس قال الشيخ :
-        الظاهر ما في نصيب يا بو عبدالفتاح
ذهل الأب من رد الشيخ الذي لم يتوقعْه ، فعبدالفتاح من نفس فخيذة[2] قبيلة الشيخ ، وقليلون من شباب القبيلة من يستلمون راتبا كراتبه :
-        أيش فيه ولدي يا شيخ ؟
رد الشيخ بصرامة :
-        اللي ف حياته ما ذبح هايشة[3] كيف أستأمنه على بنتي ؟!!
اسودَّ وجه والد المنغلق واعتزل الناس ستة أشهر بعد تلك "الفضيحة" .. وقال لولده بصوت متهدج :
-        قلبي ما راضي عليك لين أشوفك تذبح .
قالت الأم :
-        يا ولدي ما يجوز تغضّب بأبوك .. التيس اللي بتذبحه ما أهم من أبوك .
     عبدالفتاح المنغلق يعي جيدا أن والده أهم من التيس ، المسألة فقط أنه أجبن من أن يذبح دجاجة ! .. ولعله كان يعوّل الكثير على موقف حبيبته العنود بنت الشيخ سعدون .
     وهب الله العنود ذاكرة قوية ، فهي ما تزال تتذكر حكاية إشرافها على الغرق في الوادي قبل ثلاث عشرة سنة لولا الصبيّ الذي تصادف وجوده هناك وتشبثها بطرف إزاره .. أقران الصبي الخبثاء لقّبوه "شجاع غصب" مُشيعين أن سر نجاحه في إنقاذها هو قبضته القوية على إزاره مخافة أن يتعرى أمام الفتاة ، رغم أن قبضته على الإزار كانت بيد واحدة فقط في حين كانت اليد الأخرى تتشبث بنتوء صخري وسط الوادي .. لا أحد يستطيع تأكيد ما إذا رأت العنود شيئا لا ينبغي أن تراه في تلك المعمعة ، لكن المؤكد أنها أُغرمت بالصبي منذ ذلك اليوم ، وحتى بعد أن صارت معلمة في مدرسة البنات في القرية .
     قبل ثلاث ليال من العيد الذي تلا عيد الفضيحة قال الأب لابنه : ستذبح ..
ولما لم يذبح عبدالفتاح تقدم مسعود بن بشير لخطبة ابنة الشيخ ، فكان أن رُفِض بسبب أقاويل وصلتْ إلى مدرسة البنات بأنه "يشرب الخمر" .
     قبل ثلاث ليال من العيد الثاني بعد الفضيحة قال عبدالفتاح : ما أنا بذابح .. فكان أنْ تقدم راشد بن منصور لخطبة العنود ، فتم رفضه بسبب شائعات وصلتْ إلى مدرسة البنات بأنه كان "يقْرم الماي"[4] .
     قبيل هذا العيد ، والذي يأتي ثالثا بعد الفضيحة قال الأب : إذا لم تذبح فاخرج من بيتي . وقالت العنود : إذا لم تذبح فاخرج من قلبي .
     بكى عبدالفتاح وارتمى في حضن أمه التي قالت :
-        يا ولدي كل شي في بدايته صعب ألين تتعود .
وأرته كيف تذبح دجاجتها .
     بُعيد صلاة العيد خلع عبدالفتاح دشداشته .. دخل إلى الزريبة وخرج بمعية الشاة .
     سقطتْ دمعة من عينه على حافة السكين المشحوذة بعناية .
     ثغت الشاة .


[1]  سبلة : مجلس 
[2] الفخيذة : فرع من القبيلة
[3] هايشة : بهيمة أو حيوان
[4]  يمضغ الماء .. عبارةْ شعبية كناية عن الشذوذ الجنسي