الأربعاء، 14 أبريل 2010

أن تمشي وراء حسن ربيع




عن الثقافة والرياضة وأشياء أخرى



الزمان : السادسة والنصف مساء 29 يناير 2009
المكان : مطار مسقط الدولي


حطت الرحلة 644 بحمد الله وتوفيقه في مطار مسقط الدولي، بعد تأخير في الإقلاع من مطار الكويت دام ستين دقيقة فقط لا غير، هي بالتأكيد لا تساوي شيئاً في زمان الله الشاسع، خاصةً إذا علمنا أن هذه عادةٌ أَلِفَها هذا "الناقل الوطني" العتيد استطاع من خلالها تربية زبائنه على الصبر وتحمّل الانتظارات!. طلب قائد الطائرة من ركابها التريّث إلى أن يهبط لاعبو منتخبنا الوطني أولاً.. قلتُ في نفسي: لا ضير يا صديقي، فبعد انتصارهم بالأمس فإنهم يستحقون هذه "الواسطة" غير الضارة، خصوصاً أن معظم الركاب الآخرين ما طاروا إلى الكويت إلا لتشجيعهم ومؤازرتهم. وأقول "معظم" وليس "كل" لأني أعرف اثنين من الكائنات البشرية على الأقل طارا في الرحلة نفسها لسبب آخر. قلت لبشرى: "ذهبنا وعدنا في نفس الطائرة المخصصة لتشجيع المنتخب"، ردت: "لعلهم سيلاحظون أننا لم نذهب للملعب"!. وبينما أنا أستذكر الصحفيين الذين رافقونا في الرحلة جيئة وذهاباً داهمني شعور فتّاك بالنقص فقلتُ لنفسي وأنا أضع رجلاً على رجل وأرفع رأسي للأعلى: "كانوا في مهمة رياضية، ونحن في مهمة ثقافية.. وكلنا نبض واحد ".. صدفة الضبط القدري وحدها جعلتْ أمسيتنا السردية أنا وبشرى خلفان في نفس توقيت المباراة، وعلى مبعدة أمتار فقط من أستاد السلام والصداقة بنادي كاظمة الذي احتضن المباراة، لدرجة أن زائري موقع رابطة الأدباء اضطروا لإيقاف سياراتهم بعيدًا. الحسنة الوحيدة لهذا الأمر أنه يتيح لنا أن نتحجج فيما بعد بالمباراة لقلة الحضور، وليس لأننا ممن "أدركتهم حرفة الأدب". قلتُ بعد ذلك لمن أبدى اندهاشه من عدم حضورنا المباراة رغم وجودنا في الكويت: " كنا نشجع منتخبنا بطريقتنا: نستدرج الجمهور الكويتي بعيداً عن الملعب ". سألني الكاتب الكويتي فهد الهندال بعد الأمسية: شرايك في الجمهور؟.. قلتُ: قليل.. ثم انتبهتُ إلى أن إجابةً كهذه تنقصها بعض السعرات الذوقية فتداركتُ: "ولكنه نوعي"، وبالفعل لا يمكن أن نصف جمهوراً من بين أفراده إسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وفوزية شويش السالم وحمد الحمد واستبرق أحمد إلا أنه نوعي.

في مطار الكويت، كنا جلوساً في قاعّة الانتظار رقم 3، نفعل ما يفعل المنتظرون والعاطلون عن السفر: نربي النظر!। كنتُ أشاهد "النجوم" على الطبيعة للمرة الأولى. هذا فوزي بشير وهذا حسن مظفر، وهذا "كانو"، وهؤلاء "ما زالوا" ينتظرون تعطّف "الناقل الوطني" بإعلان الموعد الجديد للإقلاع. كنتُ أحملق فيهم وأنا أفكر أنهم تجسيد حي لعبارة صن تسو في "فن الحرب": "المحاربون المنتصرون ينتصرون أولاً، ثم بعد ذلك يخوضون غمار المعركة". كانوا على الأرجح يدركون أنهم "نجوم "، لذا فقد بدوا متحفظين بعض الشيء. حركاتهم محسوبة بدقة، ويوزعون ابتساماتهم بالتقسيط المريح॥ من ذلك النوع من الابتسامات الذي تحدثتْ عنه بشرى في "غبارها"، حين يخرج المرء من البيت فيتذكر أنه نسي حمْل ابتسامته معه فيضطر لإخراج ابتسامة جاهزة من حقيبته، ابتسامة تؤدي الغرض، " وتمنح المرء شعوراً مباغتاً بالسعادة، عيبها الوحيد، فقط، أنها لا تدوم طويلاً ". قررتُ أن أصور مع عماد الحوسني وأُرِي الصورةَ بعد ذلك لأخي الأصغر محمد ليعرف أن النجوم لا تبزغ إلا لتراني!. سمعتُ جارتنا مرةً تتباهى أن بيت صهرها لا يبعد كثيراً عن بيت عماد في الخابورة. قلتُ له في محاولة لخلق حوار – ونحن واقفان في القاعة تأهباً لالتقاط الصورة - : "تراني من صحم .. يعني جيران ".. فردّ بابتسامةٍ مُجامِلة: "صحيح؟.. ما شاء الله ". وما هي إلا ثوانٍ حتى التُقِطَتْ لنا الصورةُ التاريخية التي توثّق لحظة التآخي الخلاق بين الثقافة والرياضة!.

في ذلك اليوم لم أكن قرأتُ بعدُ السؤالَ المرعبَ الذي طرحه سالم العمري في "شرفات": أيهما أكثر تأثيراً وإلهاماً في عيون الشباب العُماني: علي الحبسي أم سيف الرحبي؟॥ لم يُخْفِ العمري ( وهو – للمفارقة – مقدم برامج ثقافية حالي في التليفزيون، وسابق في الإذاعة ) لم يخفِ انحيازه الواضح كشاب للرياضة ضد الثقافة، ليس فقط في رده السريع على نفسه بدون أدنى تردد، ودون أن يرمش له جفن، أو تَطْرف له عين، أو ترتجف له شَفة: "بالتأكيد علي الحبسي"، بل أيضًا لأنه جعل اسم هذا الأخير سابقاً للرحبي في ديباجة السؤال، رغم أن منطق السن والتجربة ( بل وحتى الحروف الأبجدية ) يقضي بتقدم صاحب "المدية الواحدة التي لا تكفي لذبح عصفور" في السؤال مادام لن يستطيع – وا أسفاه ! - أن يتقدم في الجواب.. يا للرعب!.. لكأنك تتمشى في أمان الله في حديقة غنّاء فيفاجئك أحد القتلة المأجورين: "اكتشفنا أن أمك وأباك ما زالا على قيد الحياة، في حين أن كثيرين في مثل سنك ووضعك يعيشون يتماء الأب والأم، وهذا ليس عدلاً। عليك الآن أن تختار بسرعة: نقتل أمك ؟ أم أباك ؟ ". فترتبك وتتلعثم ويتساقط العرق من جبهتك بغزارة، بمَ تجيب!.. صحيح أن سيف الرحبي لم يحترف في بولتون ولكني أكاد أقسم أنه قادر على صد ضربة جزاء بسهولة.. أما علي الحبسي فيمكن اعتباره بامتياز "رجلا من الربع الخالي" وجد نفسه أكثر في "الربع الممتلئ"، وقد أذهب أبعد من ذلك لأقول إنه هو عينه "الجندي الذي رأى الطائر في نومه "!.

كان حسن ربيع هو من سجل هدف الفوز في مباراة الأمس، وقبلها كان هو هداف كأس الخليج، وكان طبيعياً أن يكون الأكثر طلباً للتصوير في قاعة المطار.. كنتُ أرقبه وهو يبتسم للصورة وأفكر: سبحان الرزاق المعطي. وتذكرتُ الشقة التي صورتْه كل الفضائيات وهو يستلمها بُعيد المباراة النهائية لكأس الخليج وسبحتُ في حلم يقظة طويييل:
أبو علي في شقته الفاخرة في "غرفة تخص المرء وحده" – على رأي فرجينيا وولف - يستيقظ صباحاً على "مسج" من الشاعر إسحاق الخنجري। يبتسم وهو يقول في نفسه : "ما أجمل أن تبدأ يومك بشعر جميل". يضع أبو علي الهاتف بجانب السرير ويتوجه إلى الحمام، وهناك يتناهى إلى سمعه نباح كلب في شقة الجيران فيتشاءم مستذكراً عبارة كاواباتا في إحدى رواياته: "إذا نبحك كلب في الصباح فتلك إشارة على أن يومك سيكون سيئا". بعد خمس دقائق يتذكر أبو علي أن هاتفه بحاجة إلى تعبئة، فيعود أدراجه إليه ليضعه في مكبس التعبئة ريثما ينتهي من طقوسه الصباحية المعتادة. لا يجد الهاتف!. يخرج إلى جاره سلطان فيطلب منه الاتصال به فيكتشف أن هاتفه صار مغلقًا!. يقول له جاره: "أشم رائحة لص، تأكد من محفظتك". يمسك بالمحفظة فيفاجأ بأن اللص الذكي الفطِن السميدع الجريء الحاذق الماهر المتمرس انتزع نقوده منها كما تُنْتَزع الشَعرة من الحساء، ولكنه ليس لصاً شريراً بدليل أنه ترك له بطاقاته الشخصية لم يمسسها سوء. يتصل سلطان بالشرطة، ليأتي شرطيان ويوبخاه على ترك المحفظة في غرفته في مكان بارز، مؤكّدَيْن حتى قبل أن يجف حبر الورقة التي يسجلان فيها تفاصيل السرقة أن القضية ستقيّد "سرقة بسبب الإهمال"!. ولا أدري كيف انتقل المشهد بهذه البساطة من الشقة الفاخرة إلى حارتنا القديمة، حيث وجدتُني لاعب كرة في بداياته يلعب لفريق الحارة، وإذا بمدرب أحد الأندية العالمية الكبيرة كان ماراً بالصدفة في حارتنا لشراء بعض الزلابيا، وإذا به يشاهدني ألعب. قال لي زميل في الملعب: " انتبه ॥ هذا مورينيو أوكامبو مدرب ريال مدريد". فطفقتُ أكثف من مراوغاتي لألفت انتباهه، حتى لقد كسرني مدافع الفريق الخصم فسقطتُ أرضًا وأنا أتلوّى من الألم، ورأيتُ المدرب يوليني ظهره متأهباً للمغادرة، فأُسقِط في يدي ووجدتُني أصرخ بكلام لا أعرف كيف خرج من فمي، ولكن يبدو أنني تعلمتُه في المدرسة: "الله الله في أمري: اجبرني فاني مكسور، اسقِني فاني صََدٍ، أغثني فاني ملهوف"، فمضى ولم يلتفتْ بينما يتعالى صراخي: "إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟، قد والله بح الحلق وتغيّر الخلق". وظللتُ على هذه الحالة إلى أن أيقظني صوتُ أحدهم وهو يقول بفرح: الطيارة ستطير بعد أربعين دقيقة.

بينما كانت الطائرة تكنس غبار السماء خرج صوت من كابينة القيادة يطلب من المسافرين الاستفادة من ميزة " المسافر السندباد " التي تُمنَحُ لمن يسافر كثيراً مع هذا الناقل الجوي। كدتُ أن أصرخ من الغيظ: " اخرس॥ السندباد كان يحترم مواعيده " لكنني لعنتُ إبليس!. بالتأكيد لن أستطيع أن أشاهد الدنيا من نافذة الطيارة لأنني كنتُ في المقعد الأوسط.. عن يساري بشرى، وعن يميني بجوار النافذة رجل خمسيني أسمر أبيض اللحية، يبدو من هيئته أنه مشجع عتيق للمنتخب. قرأتُ في الصحيفة التي أمامي أن أحد لاعبينا أصيب في الملعب، فقررتُ أن يكون هذا مدخلي لجاري الودود: "كيف حال الشيبة"؟.. رد: "الحمد لله .. طلع من المستشفى". التفتُّ لأم ناصر لأخبرها أن مبارك العامري خرج من المستشفى أيضًا، وسيسافر قريباً إلى تايلند ليكمل العلاج، ولكنني وجدتُها منهمكة في قراءة رواية "الوارفة" لأميمة الخميس، والتي أهدتْها إياها باسمة العنزي. إنْ أنسَ كل ما سردتْه لنا باسمة خلال هذه الرحلة لا أنسى حديثها عن قصة "موت أنيق" للقاص السعودي الذي كان مقيماً في الكويت خلف الحربي، عن نحات مبدع وهو في الطائرة عائداً إلى أرض الوطن، "يفتح المجلة على صورته وهو يتسلم جائزة المعهد الأوربي للفن الحديث التي كان فاز بها الأسبوع الماضي وشرع يقرأ الخبر للمرة العاشرة، ممنيًا نفسه باستقبال حافل يليق بإنجازه"، ليجد فعلاً جمهوراً كبيرًا بانتظاره، ولكن ليس لاستقباله، بل لاستقبال نجم "ستار أكاديمي"!.

ربما لأنه حرمني من مكاني المفضل على النافذة قررتُ أن أستفز الرجل الخمسيني، ففتحتُ فمي كأي انتحاري لا يخشى العواقب: "يقولون ضربة الجزاء على منتخبنا صحيحة"। رد بانفعال: "وين صحيحة الله يهديك! . الحكم حاول يجاملهم، لكن هويدي بيّض وجوهنا". وصَمَتَ قليلاً ثم أردف: "ربك ما يضرب بعصا॥ منتخبه هذا الحكم هزموه على أرضه في نفس الليلة!". ورأيتُ رجلاً يلتفتُ من مقعده إلى الوراء، أذكر أنني رأيتُه في فعاليات ثقافية وما توقعتُ أن أراه مشجعاً للمنتخب الوطني. سألتُ جاري: "كأني أعرفه هذا الرجل". فأوضح أنه فلان الفلاني من أعضاء مجلس إدارة اتحاد الكرة، وأنه تلقى أمس أثناء المباراة ضربة في ظهره بقنينة ماء من قبل الجمهور. تذكّرتُ الرجل بمجرد ذكر اسمه، ووجدتني أقول لنفسي وأنا أنظر إليه: " لو مع اللوحات بقيتَ ما قذفوك ولا ضربوك "!.

قرأتُ في بعض التحليلات الرياضية أن هؤلاء هم المنتخب الذهبي لعُمان. وأن السلطنة لتحافظ على هذا التفوّق بحاجة إلى تشكيل منتخب رديف من شأنه أن يحافظ على منجزات المنتخب الأصلي. وشخصياً لا أعرف إن كان هذا المنتخب قد شُكِّل أم ليس بعد. ولكن إذا لم يكن "لوروا" قد شكله فما الضير لو كان هذا المنتخب الرديف من المثقفين: سيف الرحبي رأس حربة مثلاً، وأحمد الفلاحي حارس مرمى، وسماء عيسى "ليبرو"، وخالد عثمان "مسّاك"، ومحمد الرحبي ظهير مهاجم ليتسنى له - كما تمنى في أحد مقالاته - أن يرفع دشداشته بعد أن يسجل الهدف ليكشف عن عبارة "تضامناً مع غزة" المكتوبة في بطنه. ولا مانع أن يحترف بعض لاعبي هذا المنتخب في الخارج: على المعمري في الأهلي المصري، وناصر البدري في مانشيستر الإنجليزي ( بطلب شخصي من السير اليكس فيرجسون ! )، ومحمد اليحيائي في نادي جالاكسي الأمريكي بديلاً لبيكهام. وهلمّ جرياً في الملعب.. ألن يكون هذا بحق منتخب الأحلام؟!. الانتصارات الكبيرة بدأتْ بحلم، ولا شيء يمكن أن يقف في وجه الإرادة الحقيقية. و"عندما يناضل المرء من أجل كل ما تحت السماء فعليه أن يناله كاملاً"، هكذا تحدث صن تسو أيضًا. قبل عشر سنوات كان حصولنا على كأس الخليج ليس أكثر من حلم، أما اليوم فقد أصبح الحلم واقعاً معيشاً، واحتفل به الجميع، ليس فقط المهتمون بالرياضة، بل كل عُمان، مواطنوها ووافدوها. في ليلة الانتصار، وبسبب الاحتفالات التي عمّت السلطنة بأكملها
احتجتُ لثلاث ساعات لأنتقل من مبنى الإذاعة إلى البيت في حين كان لا يستغرق الطريق في الأحوال العادية أكثر من خمس وعشرين دقيقة। ثمة من تذكّر بمرح حكاية العربي الذي حزم وسطه وأخذ يرقص ابتهاجًا. احتفل بالانتصار حتى مَنْ لم نتوقعه. وقد روى أحد الظرفاء أنه شاهد بعض الكتّاب والمثقفين الذين لم يكونوا يوماً متابعين أو مشجعين لمباريات الكرة، شاهدهم في تلك الليلة يدخلون حانة جون بيري بُعَيْد المباراة وهم في حالة انتشاء عارم ويهتفون بالنادل: "كلنا نبيذ واحد"!.

في صالة المطار وبينما أنا أنتظر حقائبي اتصلتُ بأخي حمد لأخبره أنني وصلتُ فكان رده: " أنا بعدني في بركا، ربع ساعة وأكون عندك"। وما هي إلا دقائق حتى اكتمل عقد حقائبي الثلاث ووضعتُها في العربة। أي تواطؤ قدري هذا الذي جعل حسن ربيع يمشي أمامي ونحن متوجهان إلى صالة استقبال القادمين!। كان يمشي بطوله الفارع متأبطاً حقيبة رياضية صغيرة، وبدوتُ أنا خلفه بعربتي وكأنني حامل حقائبه!। وما إن ظهرنا للجمهور، ( بتعبير أصدق وأكثر دقّة: ما إن ظهر حسن وأنا وراءه ) حتى توالت الترحيبات: "شرفتنا"، "يا مرحبتين"، "مبروكين"، "بياض الوجه"، "لو سمحت صورة"।
تركتُه يبتسم للهواتف النقالة ومضيتُ مُنكّساً رأسي جارّاً عربتي باستحياء.

هناك 3 تعليقات:

  1. سليمان لكم متابعون فلا تقلل..

    ردحذف
  2. إن لفتة إنسانية في ثنايا قصصك لا تضاهيها آلاف من الكؤوس المجوفة... ثق بهذا يا سليمان..

    واطمئن فالناظر إليك لا يمكن أن يعتقد أن لك أي علاقة بالرياضة-دع عنك المنتخب هنا- وبالتالي فأنت براء من شبهة الإرتباط بحقائب حسن ربيع!

    تقبل تقديري الكبيييير لك..

    ردحذف