الثلاثاء، 30 مارس 2010

العزاء ..



العزاء

     قبل أن يدخل نظر إلى حذائه نظرة مودع ، ولكنه سرعان ما طرد الهاجس بالتفكير أنه في زحمة كل هذه الأحذية الجميلة لا يمكن أن يكون السارق غبيا ليختار أكثرها تواضعاً :
-        السلام عليكم
شعر عبدالفتاح المنغلق بالزهو وهو بكلمتين فقط أَنهضَ كل من كان جالساً في الجامع .. قال في نفسه وهو يمد يده إيذانا ببدء مهرجان التصافح : "أنا شخصية" .. أيادٍ كثيرة كان على عبدالفتاح أن يصافحها :
يد قوية : أحسن الله عزاكم .
يد خشنة : عظّم الله لكم الأجر .
يد بضة : السلام عليكم .
يد بيضاء : كيف حالكم ؟ .
يد سوداء : أهلا وسهلا .
يد شرير : مرحبتين .
يد مهرّج : مأجورين إن شاء الله .
يد بسبابة طويلة : حياكم الله .
وعندما جاء الدور على اليد التي بدون أظافر اكتشف المنغلق أن القاموس انتهى ، وأن عليه أن يبدأ توزيع الكلمات من جديد :
يد كأنها نصف يد : عظّم الله لكم الأجر .

يد كأنها يدان : كيف حالكم ؟
ثم خطر له في تلك المعمعة تساؤل حرّاق : كيف لي أن أصافح كل هذه الأيادي من غير أن أتحوّل إلى ببغاء ؟! .. فعمد إلى الاكتفاء بمصافحة البعض دون أن ينبس بكلام ، جاعلاً هذا الصمت كفاصلة بين عبارتين .
     بعد أن فرغ من اليد الأخيرة قرر عبدالفتاح المنغلق أن يحتفل بطريقته الخاصة ، فهتف بصوت تعمّد أن يكون عالياً : ( أحسن الله عزاكم جماعة ) .. ودون أن ينتظر رداً من أحد تحرّك باحثاً له عن مكان ، وساعده أحدهم – وهو على ما يبدو أحد أقرباء الميت – فأفسح له مكاناً في صدر المجلس .. وها هو عبدالفتاح يصبح واحداً منهم .. يده من أياديهم ، لها ما لها من تمر ومن قهوةٍ مُرّة ، وعليها ما عليها من ضغط ومن هزٍّ كما تُهَزُّ يانعات الثمار .
     اقترب شيخ عجوز وهمس في أذن عبدالفتاح : جبت علوم[1] ؟
-        لا .. ما جبت
-        ما حد تعاضل[2] ؟
-        لا .. ما حد
-        ما حد شاكي باس[3] ؟
-        ما حد .
     يعرف المنغلق أن عليه الآن أن يرشق الشيخَ بسؤال : " ومن صوبكم [4]؟ " ليتأكد هذا الأخير أنه من قبيلة محترمة .. ولكنّ غيظاً ما داخله هتف : لا تفعل ..
     عبدالفتاح ليس من هذه القرية .. بل كان ماراً بالصدفة حين رأى السيارات الكثيرة أمام باب الجامع في غير ما وقت صلاة .. قال في نفسه : السيارات الكثيرة في النهار تعني عزاء ، مثلما تعني السيارات الكثيرة عرساً .. ولأن المنغلق يعتبر العزاء موقفاً ضد الموت فقد ترك سيارته في موقفها وترجل ليسجل موقفه .
-        ود من انته [5]؟
 عاود الشيخ مضايقة عبدالفتاح الذي نظر بامتعاض في عينيه ، وقال بعينيه :
-        أنا أجزم أنك ما جئتَ إلى هنا إلا لتطمئن أن الموت أخطأك .
ردت عينا الشيخ :
-        لن أكرر سؤالي ، لأن الأشياء تفقد هيبتها بالتكرار يا ولدي .. ولو أن الموت لا يتكرر لهبتُه .
     كانت عيناه عسليتين .. ألهذا إذن تذكر عبدالفتاح حبيبته ؟!  .. قالت يوماً : "ربما كنتُ الإنسانَ الوحيد في هذا العالم الذي يمجّد الشخير ولا يستاء منه " .. لم يندهش ، فقد أخبرتْه ذات حزن أنها مذ رأتْ أباها في رقدته الأخيرة وهي تحملق بتركيز شديد مشوب بالقلق في كل مَنْ تراه نائما .. مسح عبدالفتاح المستطيلَ الطويلَ بعينيه فلاحظ أن الجميع تقريبا يحمل عصا طويلة ورفيعة في يده .. تمتم في سرّه : "تا الله إن الموتَ لا تخيفه عصا لو كنتم تعلمون " .. وحين تناهت إلى أذنه أبيات "الميدان"[6] التي كان يتبادلها المعزيان المقابلان له أدرك المنغلق أن عليه أن يغادر المكان .
*      *      *
كان عبدالفتاح سعيداً عندما وجد حذاءه كما تركه .. فكر وهو يدير محرك سيارته قافلاً إلى بيته في القرية المجاورة أنه دخل وخرج ولم يعرفْ مَنْ الميت !


[1]  أتيت بأخبار ؟
[2]  أما من أحد أصابتْه معضلة ؟
[3] أما من أحد يشكو بأساً ؟
[4] وماذا عنكم أنتم ؟
[5] ابن من أنت ؟
[6] فن شعبي عُماني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق