الثلاثاء، 30 مارس 2010

الأبيض والأسود


الأبيض والأسود

     عندما رأى عبدالفتاح المنغلق فتاته ترفل في الأسود ، لم يفكر قط  أن ابتسامتها بيضاء .. فكر فقط في قتل معلمه في الابتدائية الذي أدخل في رأسه أن الأسود لون شرير .. دار في خلده وهو يتأمل بياض عينيها أن علاقته بالأبيض لم تكن سيئة قبل اضطراره اليومي للذهاب إلى مقر عمله أبيضَ بكثير من السوء .. ألهذا إذن بات لا يشرب الحليب إلا إذا مزّق بياضَه الشايُ ؟! .. "الأبيض بالإكراه ليس سوى أسود" تمتم في سرّه لئلا تسمعه جدران مكتبه البيضاء .. تذكّر فتاته وهي تبرر سوادها في لقاء الأمس ، وهو التبرير الذي يتلخّص في أن رجلا من أهلها مات في ازدحام شديد قبل أن يتمكن من رجم الشيطان بسبع حصوات صغيرة .. يزعم عبدالفتاح المنغلق أنه لم يكن غبيا ولا أحمق حين دعا فتاةً ملبدةً بالأسود الذي لم يجفّ بعد ، إلى السينما .. بل كان يستغل – كأي انتهازي خبيث – معرفتَه بأن الشيطانَ لم تشجّه حصوات الرجل .. الفتاة رفضتْ بالطبع ، ولكن من قال إن المنغلق كان يعوّل كثيرا على موافقتها ؟!.. كانت حكمته في الحياة أن مزرعةَ الخيال وفيرةُ المحاصيل ، فقط اسْقِها ..
     سقى عبدالفتاح المزرعة وتوجّه إلى سينما الشاطئ .. هناك حجز تذكرتين في المقاعد العلوية التي تتيح الرؤية بوضوح ، إضافة إلى ميزاتها الأخرى .. لم ينسَ أيضا أن يشتري كيسَيْ فوشار .. "سندريللا مان" عنوان مخيّبٌ لآمال عبدالفتاح الذي كان يفضّله فيلماً بالأبيض والأسود ، لكنه علل نفسه بأنه ربما يكون فيلماً مناسبا للمرحلة ! .. نظر إلى يمينه وقال بابتسامة غير مصطنعة : أنت سندريللا ، وأنا "مان" .. لم يندّ عنها ما يوحي بأنها سمعتْه في ضجة الموسيقى المنبعثة من الشاشة الكبيرة .. بعد حوالي ربع ساعة نظر المنغلق إلى فتاته بنصف عين : " يا الهي ! .. ماذا لو أن أخاها ملاكم ! " .. بعد دقائق معدودات سيكتشف عبدالفتاح أن الملاكم القوي سيتحول إلى شحّاذ لا حولَ له ولا قبضة ، لأن يده مكسورة ، وروحه كذلك ! .. لا يحب عبدالفتاح هذه النوعية من الأفلام التي تعرّيه من الداخل ، علاوة على أن مشهد القوي الذي يتحوّل فجأة إلى هشّ كنملة هو مشهد لم يعد قادرا على إدهاشه نظراً لأنه أَلفَه كلّ مساء في المرآة .
        في اللقطة الرومانسية المؤثرة التي جمعتْ راسل كرو ورينيه زويلويغر التفتَ عبدالفتّاح الى يمينه وهَمَسَ : "إنهما يتعانقان ! " .. كانت مندمجة فلم يشأ أن يُعيدَ همستَه ( همسات عبدالفتاح المنغلق طبيعية وغير مفتعلة ، لذا فإنها لا تُعادُ ) .. كان فُتاتُ الفوشار يتساقط تحت قدميه دون أن يشعر .. في منتصف الفيلم أظلمت الشاشة إيذاناً باستراحة قصيرة .. نظر عبدالفتاح إلى فَتاته فانذهل حين رأى أسنانها البيضاء .. خَطَرَ بباله أن المكان أسود وأن ضحكتَها هي الأبيض الوحيد ، كأنها نجمة يتيمة في ليل بهيم .. عرف لحظتَها أن الشيطان ، لا غيره ، هو مخترع السينما .. فجأة اشتعلت القاعة بالنور لتُظلمَ بعدها بدقائق ويواصل جيم برادوك رحلة الهروب من ضعفه .. انتابت عبدالفتاح رغبة بريئة في أن يواصل متابعة ما تبقى من الفيلم ويدُه نائمة في يد فتاته .. لكنها سرعان ما تكفلتْ بقمع رغبته تلك لأنها " عيب" .. كان على الملاكم ليستعيد ما مضى من مجده الغابر أن يُنازلَ ملاكماً آخر اشتهر بقتل كل مَنْ يُنازلُه .. ولقد بكى عبدالفتاح حتى اخضلت لحيته حين رأى ماي برادوك تودّع جيم برادوك بالدموع قُبَيْلَ دخوله الحلبة .. "هكذا هي الزوجة وإلا فلا " دمدم بصوت خفيض وهو يزدرد الفوشار الذي زادتْه دموعُه ملحاً على ملح .. في معمعة اللكمات الرائحة الغادية شعرَ عبدالفتاح المنغلق أن قلبه حمامة على وشك الطيران .. التفتَ إلى يمينه وقال بلهجة حادة : "لنذهبْ من هنا بسرعة " .. قالتْ : "إنها الدقائق الأخيرة من الفيلم ، انتظرْ قليلا " .. امتعضَ عبدالفتاح وغادر المكان بسرعة سنجاب مذعور ، تاركاً فَتَاتَه ترفل في الأسود .. وفُتَاتَه أيضا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق