الثلاثاء، 30 مارس 2010

أقول وقد ماتت بقلبي حمامة


أقول وقد ماتت بقلبي حمامة



 أنا واثق أنكم لستم بحاجة لمن يسرد لكم حكاية تافهة عن حمامة ميتة ، لأن هذا أمر عادي .. بل إن بعضكم قد يكون خارجا الآن من مطعم فاخر بعد أن التهم وجبة حمام مشوي دسمة ، دون أن يرفَّ له جفن أو يخطر بباله سؤال بسيط من قبيل : من أين جاء الحمام الذي أكله ؟ .. حسنا .. أنتم لستم بحاجة ، ولكني جدُّ محتاج لأسرد حكايتي قبل أن يتفاقم هذا الانهيار الذي أحسه يزلزل روحي من الداخل .. ومع هذا ، يلزمني التنبيه إلى أن ما سأقوله لا دخل له بكلام صديقي هنري جيمس الذي يتفاخر بأنه يرصد انهياره الخاص زاعما أنه عندما يسرد المرء انهياراته فان كل شيء يمكن أن يكون مفيدا ! .. وعموما هو ليس هنا الآن لأسأله عن الفائدة التي يمكن أن يجنيها قاتلُ حمام من سرده حكاية الحمامة التي قتلها ! .
     سأعترف الآن مادامت الأمور وصلت إلى هذه الدرجة من التدهور أن حمامةً ميتة فقط ، كهذه التي سأخبركم عنها ، هي كل ما كان ينقصني لأدق المسمار الأخير في نعش إنسانيتي .. يقترف الإنسان أحيانا أشياء غير متوقعة ولكنها تتواءم وانحداره الشخصي العام .. قبل عدة سنوات من الآن صببتُ جام غضبي على أولئك الذين يتلذذون بذبح العصافير ، ولم يدر بخلدي ساعتئذ أنه سيأتي عليَّ يوم أهرس فيه حمامة .. نعم .. هذا هو التعبير الدقيق .. هرستُها .. ليس بيدي ، ولا برجلي .. بل بعجلة السيارة !! موفِّرا لهذه المسكينة ميتة أشنع ، وأسرع ، تليق بالقرن الحادي والعشرين ! .
     للأمانة ، أنا لا أحب فرويد ، ولا أعرف شيئا عن اللاوعي المتكوم في أسفل المعدة .. سأخبركم فقط عن وعيي .. أنا لم أشأ أن أقتلها .. قسماً برب الحمام والعصافير لم أشأ ذلك .. من أراد فليصدقني ، ومن لم يُرد فليصدقني أيضا لأنني في هذه اللحظة بالذات أشعر أنني أصدق مَنْ على وجه البسيطة .. أنا أعرف مثلا  أن الإنسان يحتاج دائما إلى من يخبره بأن فعلته ليستْ شائنة وأنهم لو كانوا مكانه لفعلوا الأمر ذاته ، ولكن صدقوني أنا لا أسرد لكم هذه لحكاية لهذا السبب .. ماذا؟! ..كأني أسمع أحدكم يزعق بي من بعيد : "تباً أيها السفاح ، لقد قتلتَ أفقر شاعر في الأرض : الحمامة" .. فلْتقسُ عليَّ أيها الزاعق لأني أستحق أكثر من هذا ، وخاصة إذا عرفتَ أن علاقتي بالحمام لم تكن سيئة على الإطلاق .. المسألة ليست سوء تفاهم مع الحمام .. المسألة هي أنني لم أعد إنسانا ، رغم العينين ، واللسان والشفتين ، والنجدين اللذين تتعثر خطواتي بينهما .. صديقي عدنان سالم هو أول من انتبه لهذا الكشف عندما نصحني أن أنظر في المرآة قبل أن أنام في آخر الليل ..كانت أذناي أطول من المعتاد ولكني تجاهلتُ الأمر وعزَوتُه لأسباب فسيولوجية .. ساعدني على هذا أنْ لا أحد لاحظ ذلك غيري ، حتى عدنان نفسه لم يلاحظ أن أذنيَّ تطولان يوماً بعد آخر .. ولعله لاحظ ولكنه أشفق عليَّ من الحقيقة ! .
     حدث كثيرا فيما مضى أن اعترض طريقي سرب حمام أو عصافير ، وكنتُ أتعمد ألا أخفض سرعة السيارة لثقتي التامة أن هذا السرب سيطير في اللحظة الأخيرة قبل أن أصدمه .. وهذا ما كان يحدث بالضبط .. لن أعدم الآن بالطبع من سيتهمني بأن عدم إبطائي لسرعة السيارة ناجم عن توجيهات خفية من لاوعيي المشاكس ، وأنا لن أنفي لأنني كما أخبرتكم لا أعرف شيئا عن هذا المشاكس سوى أنه مستقر في قاع المعدة .. غير أن المدهش في هذه الحكاية كلها أن هذا الصباح بالذات لم يكن مناسبا بالمرة لدعس حمامة .. فأنا أولا كنتُ بكامل نشاطي وتفتحي الذهني بعد أن تحصّلتُ على سبع ساعات نوم كاملة لم أوتَها منذ فترة طويلة .. ثم إنني لم أكن أقود سيارتي في الشارع السريع الذي لا يتيح لي تفادي المفاجآت .. بل إن السيارة كانت تمشي وكأنها لا تمشي في الزقاق القريب من بيتنا .. ورأيتُها .. كانت تدرج على الشارع بهدوء وثقة .. كنتُ أقترب منها ومع هذا لم تفكر في الطيران .. لم تكن تعرج في مشيتها لأستنتج أن عطباً ما أصاب جناحيها .. عندما اقتربتُ منها كثيرا بحيث أصبحتْ في منتصف المسافة بين الإطارين الأماميين لم أرَ شيئا يحلق في الفضاء كما كنتُ أتوقع .. لماذا لم تطر ؟! .. هل كانت تنوي الانتحار ؟! .. هل كانت تتحداني ؟! .. هل تجرؤ ؟! .. لا أحد يستطيع أن يحزر ما يمكن أن تفكر فيه حمامةٌ ذاهبةٌ للموت في الصباح الباكر ..
      بعد أن تجاوزتُها نظرتُ متلهفاً في المرآة الأمامية التي يسمونها عين القط .. أتُراني أردتُ الاطمئنان عليها أم التأكد بأنني سحقتُها ؟! .. مضت السيارة إلى الأمام مسافة ليست بالقصيرة قبل أن أحزم قراري بالعودة لأراها ..عدتُ ولكني لم أر شيئا .. لا الحمامة .. ولا أي أثر يدل عليها ، ريش مثلا أو بقع دماء .. أنا متأكد أنها لم تطر لأن عينيَّ وعين القط كانت مفتوحة بانتباه .. فتشتُ على جانبي الطريق ولم أجدها .. حدستُ أنها علقت في أسفل السيارة ، وربما في الإطار .. انبطحتُ وحملقت بتركيز شديد ولكني لم أر شيئا .. من فوري هرعت إلى ورشة التصليح القريبة .. نزلتُ في الحفرة التي تمكنني من رؤية أسفل السيارة بوضوح .. لم أرَ شيئا .. يبدو أنها سقطت في الطريق إلى الورشة .. الإطارات الأربعة مليئة بالتراب ولكن لا آثار لدماء .. لعلها انمحت في الطريق .. حتى العامل الذي طلبتُ منه الحملقة بتركيز لم ير شيئا .
     أنا متأكدٌ أنني دعستُها .. ولكن لا أدري أية فكرة جهنمية هذه التي واتتها وهي في النزع الأخير كي تمنعني من رؤيتها تموت . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق