الثلاثاء، 30 مارس 2010

الخروف الضائع !


الخروف الضائع !

   

 ماذا يعني هذا ؟!! .
        أن يستيقظ المرء صباح كل يوم في الساعة نفسها بالمنبه نفسه ، بعد ليلة ملأى بالكوابيس نفسها ، وأن يشرب القهوة المُرة ذاتها ضاماً شفته العليا إلى السفلى في كل رشفة.. أن يرتدي البياض ذاته الذي سيُجلله من الأخمص حتى الكتفين ، أما السواد العلوي فسيُحكم ربطه جيدا بقماشة مزركشة لئلا يطير! .
     أن يهرع إلى صديقته اليابانية التي تنتظره منذ الليل أسفل العمارة ، وحين تسير به في الطرقات ستشترط عليه أن يتوقف قليلا لتشرب "قهوتها" هي أيضا ، تلك القهوة التي لن تعرف أن تشربها إلا من خلال خرطوم طويل .. أن يدفع ريالاً لعامل المحطة الذي يبدو من تثاؤبه أنه لم ينم جيدا في الليلة الفارطة ، ويشتري الجريدة نفسها التي لا يستغرق في قراءتها في العادة أكثر من دقيقة واحدة .. أن يشاهد في الشارع المرصوف بالقار والأمنيات السيارات ذاتها تتهادى كفئران مذعورة .. أن يشعر بالسأم فيضغط على زر أمامه ليستمع إلى الكلام ذاته عن الأكلات الضارة بالصحة والقَوام ، والى الحوار الدرامي نفسه الذي لا بد أن تتخلله عبارة " تو انتي مالش كذاك يا حرمة ؟!! ".. أن يضطر آن وصوله لمقر عمله أن يلف ويدور بصديقته لنصف ساعة على الأقل قبل أن يجدا مكانا يليق بانتظارها ، والذي سيكون في الغالب مكانا تحت الشمس حيث كل شيء واضح وحار! ..
     أن يفتح باب مكتبه بالمفتاح ذاته ويدخل بالقدم نفسها ، ماراً على المنسقة العجيبة ذاتها التي لا تستطيع إنجاز أي عمل دون أن تضحك! .. أن يندفن وسط كومة من الأوراق والملفات حتى لا يكاد يُرى .. أن يفتحَ الصفحة الأخيرة من الجريدة ليبدأ يومه بالأخبار الطريفة .. أن تكون الصورة التي تشغل حيزا كبيرا من الصفحة  لملكة جمال أندونيسيا وأعلاها عنوان ببنط عريض : " عودة إندونيسيا إلى منافسات ملكات الجمال ".. أن يفكر أنه إذا ما أسعفه "حنان" مديرته ووافقتْ على إجازته السنوية سيسافر إلى جاكرتا .. أن يمرر عينيه في العناوين بحثا عن خبر يشدّ يكون حافزا له ليعمل بنشاط .. أن يقرأ :

وفاة مهرب نيجيري بعد انفجار المخدرات في معدته باليابان ..
التغلب على سرطان الثدي بالمشي ..
وفاة صبي اختبأ في عجلة طائرة ..
يزود شقيقه بالمخدرات داخل قاعة المحكمة ..
صبغات الشعر لا تسبب السرطان ..
خروف ضائع ينقذ صاحبه من الموت..

   أن يبدأ بقراءة الخبر الأخير بانشداه :
" أنقذ خروف ضائع منذ ثلاث سنوات حياة أحد المزارعين في الجبال النرويجية في منطقة ستوردالن .. وقال صحيفة أفتنبوستن أن المزارع أرني تورالف ميانغر لمح الخروف الشريد وقد نما الصوف على ظهره بشكل كثيف .. وقال ميانغر : …. "[1]    أن يقاطع استرساله في قراءة الخبر رجل بوجه صغير وأنف طويل ونصف شنب ليخبره أن اجتماعا سيبدأ بعد قليل وعليه أن يحضره .. أن يفكر وهو في الاجتماع أنه نسي في الليلة البارحة أن ينام جيدا ، وأنه نسي أيضا أن يتنفس جيدا .. أن يخرج من غرفة الاجتماعات مهرولا ليكمل حكاية الخروف الضائع ليتفاجأ بأن أحدهم أو إحداهن سطا على الجريدة في غيابه وجعلها نسيا منسيا .. أن ينسى الخروف والجريدة الضائعين ويندس في الأوراق والملفات حتى يُفاجَأ أن المساء قد حل ، المساء نفسه الذي يحل كل ليلة .. أن يخرج من المكتب بالقدم نفسها ويغلقه بنفس المفتاح .. أن يفكر بينما تسير به صديقته اليابانية إلى المقهى نفسه الذي يتوجه إليه كل ليلة ، أن يفكر أن جبال النرويج بعيدة .. أن يعرّج في الطريق على أقرب دكان سائلا عن جريدة اليوم .. أن يدور بخلده بعد خروجه من الدكان الثالث بلا جريدة أن ثمة قوة خفية لا تُريده إكمال حكاية الخروف! .
     أن يستقبله النادل بالترحاب ذاته : "ازيّك يا فيلسوف؟" .. أن يطلب نفس الشاي بنفس الحليب بنفس الزنجبيل .. أن تغزو خياشيمه رائحة المعسل نفسها التي لا تطيقها رئتاه .. وأن يستمع إلى الثرثرة نفسها عن آخر مغامرات "البلوتوث" وقطعة الأرض التي ظهرت أخيرا في العامرات .. واهتمام ريال مدريد بضم بالاك .. وعن الشريط الجديد الذي يصرخ فيه صاحبه "ما في أحد مرتاااح "! .. أن ينضم إليه الأصدقاء أنفسهم الذين يلتقي بهم كل ليلة .. أن يتبادل معهم الثرثرة ذاتها عن العمر الذي يذهب بسرعة ، وعن الأشياء الجميلة التي تغيب .. وعن الحنين، والفقد ، والهواء الآخذ في النفاد .
     أن يغادر مقهاه آخر الليل متعمدا المرور من الشارع الفرعي ذاته الذي لا يؤدي إلى بيته ، الشارع نفسه الذي يمر عليه كل ليلة ، الشارع الذي ينتصب على مقربة منه منزل جميل بطابقين ، كان قبل ثلاث سنوات فقط بطابق واحد .. أن يُردد في نفسه وهو يوقف سيارته ليمارس حملقته اليومية في البيت : ما أجمل أن نترك الأشياء لتَكْبُر! .. أن يشعر بفداحة التضليل الذي تمارسُه عبارتُه تلك فيعيد صياغتها مرة أخرى : ما أجمل أن تتركنا الأشياء فتَكْبُر! .. أن تنداح في مخيلته صورة الرجل والمرأة اللذين كانا يسكنان البيت قبل السنوات الثلاث : الرجل الذي يحب أم كلثوم ولا يحب الهمبرجر ، والمرأة التي تحب الهمبرجر ولا تحب أم كلثوم .. أن يتساءل داخله : ماذا لو أنه أحب الهمبرجر ؟! .. ماذا لو أنها أحبت أم كلثوم ؟! .. أن يقود سيارته تاركا البيت القديم متوجها إلى البيت الآخر الذي لم يعد جديدا .. أن يدخل الغرفة نفسها بعد أن يفتحها بالمفتاح نفسه ، ويلقي بنفسه في السرير ذاته بعد أن يخلع البياض .. أن يمسك بالكتاب ذاته الذي بدأ قراءته منذ شهر ولم يفرغ بعد .. أن تُطل عليه من الصفحات صورة الخروف الذي لم يكمل حكايته .. أن يقرر قبل أن يُغمض عينيه : غداً إذا ما استيقظتُ ، لا بد أن أصل إلى نهاية الحكاية ، حكاية الخروف الضائع! .


[1]  هذا الخبر والأخبار الأخرى المشار إليها في القصة نُشرت في العدد 4976 من جريدة القدس العربي الصادر بتاريخ 26 مايو 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق