الثلاثاء، 30 مارس 2010

كاريزما


كاريزما

     لم يكن عبدُ الفتاح المنغلق يوماً من المهتمين بنشرات الأخبار ولا من الذين يناصبونها العداء بحجة أنها تلوث الهواء بأنباء الحروب والأعاصير .. كان يعي تماما أنه ليس أكثرَ من حصاة بائسة في طريق وعر .. وعندما يخرج عبد الفتاح كل مساء من علبته الأسمنتية كان يتناثر في الشوارع كبطّيخة شُقَّتْ للتو .. ذات مرة : مشى وعيناه في النجوم فكان أن تعثر بثياب الليل الطويلة فانكفأ على يقينه .. قال لنفسه وهو يرى إلى الواجهة الزجاجية : "المطاعم وُجدتْ لتسكتَ نباحَ المعدة" .. اختار طاولة بالقرب من التلفاز ، وشرع بالحملقة في السحنات المحيطة به وهو يتمتم : ما الذي يفعله السأم في هذه الساعة المتأخرة ؟! .. في الواقع لم تكن الساعة متأخرة ، بل سأمُه هو الذي بكر هذه الليلة بحجة أن لديه موعدا مهما صباح الغد .
     قلنا إن عبد الفتاح المنغلق ليس من هواة متابعة الأخبار ، لكنا لم نقل البتة انه ليس من هواة التفرس في جمال قارئات النشرات .. نادى عبد الفتاح النادل البنغالي وهتف وهو يشير بسبابته : "انظر أليست تنظر إلي ؟!" .. ابتسم النادل ابتسامة لا أحد يعلم إلا والدته في دكا أنها لا تخرج من فيه إلا حين يشتم أحدا في سره .
     عبدالفتاح المنغلق يعلم جيدا أن الحياة طلقة من ذهب حتى قبل أن يقرأ ذلك في كتاب بغلاف أسود .. "انظر أليست تنظر إلي؟! " ..كرر سؤاله على البنغالي الذي كان لحظتها يؤثث الفراغ بالضحكات المكتومة .
     كانت عيناها فراشتين في مطلق .. وكانت شفتاها ترتفعان وتنخفضان كأرجوحة أطفال .. هل قالت إن عبوة ناسفة انفجرت في مكان ما ؟! .. هل بشّرتْ بعواصف تربت على ظهر الأرض ؟! .. هل كان صوتها حادا كشفرة ؟! .. هل كان هادئا كخرير فيضان ؟! .. لم يكن المنغلق ليكترث بهذه الترهات وهو يرى تلك الابتسامة التي توزع يواقيتها على عابري السبيل بأريحية .."التفاصيل في التقرير التالي " فكرةٌ جهنمية لتعكس الضفافُ ظِلَّ عبد الفتاح المنغلق في مراياه ..فكر عبد الفتاح أن تلك الابتسامة الباذخة بين التقرير ومقدمته وكأنها ضفة آسرة بين نهرين عظيمين ليست سوى برزخ باهر بين شوك الوردة وعطرها الأخاذ ، وحين انتهت النشرة أدرك عبد الفتاح المنغلق وهو ينظر إلى طعامه الذي لم يتسنه أنه لا يمكن أبدا حبس ابتسامة في صندوق .. قام من فوره ، ونقد النادل ثمن وجبة لم تؤكل .. وترك المطعم وراءه مُطلِقاً روحه لليل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق